&فـــؤاد مطـــر &

منذ أن انقلبت إيران من إمبراطورية شاهانية إلى جمهورية ثورية وحتى قمة عدم الانحياز التي استضافتْها فنزويلا يوم 17 سبتمبر (أيلول) 2016 في جزيرة لتفادي الضجيج المتواصل مِن المعارضة ضد النظام، فإن التنظير فالتهويل فالتعطيل هو ما يتسم به الخطاب الثوري الخميني - الخامنئي إزاء القضية الفلسطينية.

في بداية التعاطي كانت الهدية الخمينية للرئيس ياسر عرفات أشاعت نوعًا من الطمأنينة للشعب الفلسطيني وللدول العربية دون استثناء، ذلك أن اصطفاف دولة إسلامية كبرى مثل إيران إلى جانب رمزية القضية الفلسطينية، متمثلة بعرفات، من شأنه تقوية العزيمة الفلسطينية والصمود في وجه الإسرائيلي الفاغر شدقه على مدار الساعة لابتلاع المزيد مِن الأرض الفلسطينية.

لكن بدل أن تترجم إيران الثورية الخطوة النوعية في اتجاه رمز القضية الفلسطينية وترسل في الوقت نفسه إشارات إلى الدول العربية تستهدف وحدة الصف العربي - الإسلامي إزاء القضية التي هي الوحيدة الجامع المشترَك بين ضفتي الإسلام؛ الضفة العربية والضفة الأخرى المتمثلة بجميع المسلمين بكل ألسنتهم وألوانهم، وحيث الجميع تواقون إلى الحرم الثالث المخطوف منذ عام 1967، ويقاسي أبشع أنواع الاحتلال والتدنيس.. إن إيران الثورية بدل ترجمة الفِعْل الرمزي إلى خطوات نوعية، فإنها بدأت تحرشًا تلو تحرش، بأقرب العرب إليها، وغرضها من ذلك أن تكون المراقد في النجف وكربلاء في عهدتها، ذلك أن الخطاب الديني والصفة الفقهية للخميني تبقى غير مكتملة من دون الاستحواذ على المراقد التي لحكمة من رب العالمين شاءت عاديات الزمن الغابر أن تكون على أرض عربية كما الحرم الثالث، وهذا استكمالاً إلى أن رسول الله عربي، وأن الكتاب أُنزل باللغة العربية. هذا ضمنًا يشكل حساسية في النفس الفارسية.

رغم سنوات الحرب المريرة مع العراق ما زالت المراقد على أرضها العربية، لكن في المقابل ما زال الخطاب الثوري الإيراني لا يجد طريقه إلى إعادة نظر، تمامًا على نحو المفردات التي يتسم بها خطابه في الموضوع الفلسطيني الذي من شأن الإضاءة عليه الاستنتاج بأن تعاطي أهل الحُكْم الثوري مع هذا الموضوع يتسم بالتنظير والتهويل والتعطيل، كما التعاطي مع قضايا أخرى إقليمية، في حين أن القليل من التروي والتعاون مع سائر الأطراف التي يعنيها أمر القضية الفلسطينية، من شأنه أن يحقق الكثير لما هو لمصلحة أبناء القضية. ونقول ذلك من دون استبعاد مسألة ذات دلالات، وهي أن أهل النظام الثوري في إيران يتحسسون من كون هوية فلسطين عربية، وأنهم بالتالي يتعاملون مع القضية الفلسطينية بأسلوب التعطيل، وعلى نحو ما نتابعه حاصلاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولكل من هذه التعطيلات أغراضه، لعل أهمها إرباك الدول العربية والمسلمة الأكثر جهوزية لتحقيق التآلف بين القلوب العربية، وبما من شأنه جعل العقول لا تنأى عن الصواب.

ونحن عندما نرى في الخطاب الثوري الإيراني صفة التنظير وطبيعة التهويل وممارسة التعطيل، وبالذات بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني، فإننا نستحضر من الذاكرة ما يؤكد هذا الاستنتاج بدءًا بالذي قاله المرشد علي خامنئي في خطبة له قبل أربع سنوات، وكيف أنه تعمَّد قولها بالعربية على أن تُترجم لاحقًا إلى الفارسية «إن إسرائيل زائلة لا محالة، ولا ينبغي أن تبقى وسوف لا تبقى بإذن الله. إننا سندعم من الآن فصاعدًا أي بلد أو مجموعة تعارض الكيان الصهيوني». وبعدها بسنتيْن أضاف إلى التنظير في خطاب أمام ضريح الخميني مفردة جديدة هي: «إن أرض فلسطين غير قابلة للتقسيم، وهي بكاملها ملْك الفلسطينيين»، ثم مفردة ثالثة هي: «إن الحل الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية هي السماح للفلسطينيين بأن يقرروا بأنفسهم حكومتهم المقبلة عبْر استفتاء وإفساح المجال أمام هذه الحكومة لتقرر ما يجب أن تفعله بالصهاينة الذين قدِموا من الخارج».

وهذه المفردة سبقها بخمسة أعوام التمني من جانب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بقيام «حكومة لكامل فلسطين ووجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم»، وإلى التمني تصنيفه إسرائيل بأنها «سرطان يجب استئصاله، وأن شعوب المنطقة كافة تريد نهاية النظام الصهيوني، وكل الاستطلاعات تثبت ذلك».

وهو، أي الرئيس أحمدي نجاد، عندما التقى يوم 5 مارس (آذار) 2013، موسى أبو مرزوق مساعد رئيس المكتب السياسي «حركة حماس» في طهران، أكد له «وقوف الشعب الإيراني بجانب الشعب الفلسطيني المضطهَد، وأن النصر بات قريبًا ويلوح في الأفق».

إلى هذه المفردات التي تندرج ضمن التنظير سمع الفلسطينيون من الرئيس أحمدي نجاد أقوالاً كثيرة تنتظر أفعالاً قليلة، مثل: «إن القضية الفلسطينية ليست قضية عربية بحتة، وإنما هي قضية العالم الإسلامي برمته، ولا بد من التصدي لكيان الاحتلال الصهيوني دفاعًا عن الشعب الفلسطيني الأعزل»، ومثل قوله: «إن القضية الفلسطينية تمثِّل جرحًا نازفًا عميقًا زرعه الأعداء في قلب الأمة الإسلامية كافة». كما سمعوا من رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني «إن القضية الفلسطينية ليست أمرًا سهلاً حتى نغض الطرْف عنه»، ومن وزير الأمن غلام حسين اجئي قوله إن وزارته «ستقوم بالبحث عن المجرمين الصهاينة لتقديمهم إلى المحاكمة، وإن إسرائيل أقل شأنًا من أن تهدد إيران».

وأما أحدث ما سمعناه من أهل النظام الثوري في إيران؛ فثلاثة تنظيرات أدرجها هؤلاء بين منتصف عام 2015 والثلث الأخير من عام 2016 في سجل التنظير فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني، حيث سمعْنا المرشد خامنئي يقول: «إن مسؤولية فلسطين تقع على عاتق جميع المسلمين ولا يمكن حصْرها في العالم العربي فقط، وإذا كان قادة بعض البلدان الإسلامية قد خانوا القضية الفلسطينية، فإن الشعب الإيراني أثبت بحضوره في الساحة أنه لا ينسى قضية الشعب الفلسطيني».

ثم سمعنا الرئيس حسن روحاني يضيف إلى التنظير مفهومًا جديدًا تمثَّل بقوله: «إن القوى الاستكبارية زرعت التنظيمات الإرهابية في المنطقة بهدف تهميش القضية الفلسطينية ونسيانها خدمة لمصالح الكيان الصهيوني»، ثم أضاف المزيد من خلال القول: «إن دولة إسرائيل الحالية ليست شرعية ويتعين تنظيم تصويت حول إعادة أراضي ما قبل 1948 بين اللاجئين الفلسطينيين». ثم اغتنم مناسبة القمة السابعة عشرة «حركة عدم الانحياز»، يوم السبت 17 سبتمبر 2016 ليقول: «إن الكيان الإسرائيلي يحاول استغلال التطورات في المنطقة لمواصلة جرائمه ضد الفلسطينيين».

ما أوردناه هنا هو نموذج من التنظير على سبيل المثال لا الحصر. وهو تنظير يبدو طبيعيًا صدوره من حملة أقلام مثل حالنا. لكنه عندما يصدر من دولة لا تخفي امتلاكها الصواريخ المتقدمة، وتعلن بصراحة أن مداها يصل إلى إسرائيل، فإن الانطباع عن ذلك في هذه الحال هو أن النظام الثوري في إيران ليس في وارد الاهتمام بفلسطين العربية، وأنه في انتظار تحقيق حلمه لاستكمال وضْع اليد على «خريطته» التي سبق أن أشار إليها موضحًا أنها تمتد من إيران إلى حدود لبنان مع إسرائيل، مما يعني أنها، فيما يضمر، ولو من باب التمني، تصل إلى شواطئ غزة، وعندها تصبح فلسطين في قبضته ويضع اليد على الحرم الثالث. إنه في انتظار ذلك يواصل ممارسة توظيف أوراق التعطيل، ومنها ورقة تنويم الفلسطينيين وتشتيت القدرات العربية مالاً وسلاحًا.

ما نتمناه وضْع نهاية لتشتيت القدرات ويقظة بعض إخواننا الفلسطينيين، وبالذات أولئك المستأثرون «غزة الحمساوية».

&&