حسين شبكشي

السعودية غيرت وزير المالية. هكذا انتقلت الأخبار بسرعة وبعنوان بسيط ولكنه عميق. فالسعودية فيها وزراء وبها وزير مالية.. وزارة المالية كانت دومًا تعرف بـ«السوبر وزارة» فيما يتعلق بالوزارات الاقتصادية. ترجل إبراهيم العساف عن المنصب بعد أن أمضى فترة طويلة جدًا فيه جعلته صاحب شهادة تاريخية، وهي عبارة عن «أطول مدة لوزير مالية في تاريخ السعودية». ويحل مكانه محمد الجدعان، صاحب النمط الهادئ والمتمكن والآتي من رأس هيئة السوق المالية التي قادها بحكمة واقتدار.
يجيء الرجل بصفته الوزير الثالث عشر للمالية في تاريخ السعودية منذ تأسيس المملكة، والمالية كانت دومًا الوزارة الأهم في تحريك الاقتصاد والتأثير عليه، وشهدت منذ تأسيسها محطات لافتة ومؤثرة، فوزيرها الأول كان عبد الله السليمان الحمدان وعرف بأنه كان محل ثقة استثنائية لدى الملك المؤسس عبد العزيز، طيب الله ثراه، وجاء بعده محمد سرور الصبان الذي بدأ في تأسيس الوزارة بشكل مؤسساتي وأقام فيها مبادئ الاقتصاد الحديث. ثم تعاقب على الوزارة عدد من الشخصيات لمدد غير طويلة حتى جاء إليها الأمير مساعد بن عبد الرحمن الذي عرف بمركزيته الإدارية وتحفظه في سياسات الصرف وكان يحرص دومًا على الاستقرار النقدي. وجاء بعد ذلك محمد أبا الخيل الذي عرفت فترته بـ«المضطربة» حيث هبط النفط إلى أسعار متدنية غير مسبوقة ولم تكن إدارة الشأن المالي موفقة، حيث ابتدع نهج تأخير المستحقات لآجال طويلة ومعاقبة المقاولين ووضع أسمائهم بقوائم سوداء في البنوك عند تأخرهم في تنفيذ المناقصات، وكان داعمًا للمصارف بشكل واضح على حساب الشركات الوطنية المتعثرة (رغم أن التعثر كان بسبب تأخر وزارة المالية عن السداد!). وفي فترته صدر القرار الشهير بفرض الضرائب ثم تم إلغاؤه في اليوم التالي. كانت فترة مضطربة بسطت فيها المالية نفوذًا على مؤسسة النقد فلم يعد هناك تمييز بين السياسة النقدية والسياسة المالية. وشهدت تلك الفترة الانتقائية عند اختيار البنوك التي يرخص لها بوصفها بنوكا إسلامية واستثناء غيرها وغض الطرف عن تكتلات لمجالس إدارة بنوك فيها تضارب مصالح واضح.
بعده جاء إبراهيم العساف ليعيد بناء جسور الثقة بهدوء بين الدولة والقطاع الخاص، وأعاد هيبة وزارة المالية بأداء متوازن ومدروس استوعب فيه كثيرًا من الأحداث المتقلبة، وقاد مسيرة مهمة ولافتة من الاستقرار والأداء الجيد.
الآن يجيء محمد الجدعان في ظروف صعبة وتحديات غير مسبوقة، والرجل آت من خلفية قانونية وغير محب للظهور، قليل الكلام ولكنه متفائل ويعلم قدراته ويؤمن أن الأفعال أهم من الأقوال.
كل الأمل أن يدرك الوزير الجديد أن الموازنات يجب أن تعد من قبل اقتصاديين وليس من قبل محاسبين، فالموازنة المعدة من قبل الاقتصادي تعتمد على فكرة دوران المال بشكل كامل في السوق لتصل من رصيد إلى رصيد.. من حساب إلى حساب.. من جيب إلى جيب لتعم الفائدة وتنتعش الأسواق. صرف الحكومة هو شريان الاقتصاد، أما فكر المحاسب فيعتمد على مبدأ التحكم في التدفق النقدي، والتدفق النقدي فقط يكون قراءة ناقصة للواقع، فبإغلاق الصرف يعتقد المحاسب أنه «يوفر» على الدولة من دون أن يدري أن بتوفيره هذا فإنه واقعيًا يزيد من فاتورة التكلفة بشكل عظيم.
دور وزارة المالية الآن بالشكل الجديد للاقتصاد السعودي تغير وأصبح من المتوقع منها أن تكون وزارة خزانة فقط، ولكنها سوف تكون مبعث أمان وطمأنينة إذا ما اتبعت سياسات واضحة وشفافة وصارحت الناس بحقيقة الأوضاع المالية بدلاً من العكس.
المطمئن في الاختيار الجديد أن محمد الجدعان نفسه ملم بالوضع المالي والاقتصادي ويعلم جيدًا حجم التحديات، وكل الأمل أن يحيط نفسه برجال «جدد» بعقلية مختلفة تليق مع المرحلة القادمة وأسئلتها. رجل مناسب لمهمة صعبة ولكنه اختيار جيد ومطمئن. يدخل المنصب بحالة من التفاؤل تحيط به ودعاء من الناس له بالتوفيق.