بهجت قرني

هذه قصة أحد بنوك الفكر، «مركز الإمارات للسياسات» ذي السنوات الثلاث، والذي يدخل سوقاً عالمية مكتظة ومليئة بالمنافسين، فكيف نجح؟

إحدى النتائج المباشرة لتعقيدات السياسة الداخلية والخارجية المتزايدة هي نمو حالة عدم اليقين وصعوبة إيجاد الإجابات القاطعة. وقد يكون هذا أهم أسباب صعود ما يسمى بنوك الفكر، والتي ظهرت أولاً في المجال العسكري في القرن التاسع عشر، خصوصاً في ألمانيا وبريطانيا، وكان يُطلق عليها البعض «Think Tanks» أي دبابات الفكر. ولا يزال تأثير النشأة العسكرية واضحاً في أهم هذه المراكز التي توالى إنشاؤها، ومن أهمها على سبيل المثال المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، ومؤسسة «راند» في الولايات المتحدة، والتي ظهرت للوجود في القرن الماضي فقط.

يذكّرنا إنشاء «راند» بحقيقة هامة، وهي زعامة الولايات المتحدة في هذا المجال، إذ تعد مقراً لأغلب المراكز وأشهرها، فمن بين أكثر من 7000 بنك من بنوك الفكر التي يمتلئ بها العالم، تستحوذ الولايات المتحدة على حوالى النصف، بل إن هذه الظاهرة نفسها أصبحت من الأهمية في المجتمع الأميركي بحيث إن جامعة بنسلفانيا تقوم منذ 2007 بنشر إحصائيات سنوية عن بنوك الفكر أميركياً وعالمياً، وكذلك صعود وانخفاض ترتيبها أثناء العام، بناءً على معايير محددة.

ورغم أن المنطقة العربية -مقارنةً بإسرائيل مثلاً- تأخرت في دخول هذا المجال، فإن «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الذي تم إنشاؤه عقب حرب 1967 وكنتيجة مباشرة لتأثير الهزيمة وعدم المعرفة بالخصم، كان رائداً، لا سيما أنه تغلب على أهم معوقات النشأة، ألا وهي عقبة التمويل، فقد كانت مؤسسة «الأهرام» والدولة المصرية نفسها جاهزة ومتحمسة لإنشائه.

لكن المركز استطاع أيضاً بسبب قياداته المستنيرة، من بطرس غالي إلى السيد يس وعبدالمنعم سعيد، أن يُطوِّر أجندة بحثية. وما ظهور التقرير الاستراتيجي العربي منذ عام 1986 إلا أحد مظاهر هذا المجهود البحثي المتطور.

أحد أحدث بنوك الفكر في المنطقة العربية هو «مركز الإمارات للسياسات»، الذي نظم أخيراً بالتعاون مع المجلس الأطلسي، ملتقاه الاستراتيجي الثالث. والواقع أن متابعة هذا الملتقى الثالث يُشعرك بأن المركز قد يكون أطول عمراً وأنه يتطور بسرعة متزايدة. فمقارنةً بمركز الأهرام الرائد والذي بدأ منذ 48 عاماً، تكون المنافسة حالياً بين مراكز الفكر أقوى بكثير، عالمياً بالطبع، ولكن إقليمياً كذلك.

التحديات كبيرة، وفي مقدمتها بالطبع التمويل، بغية ضمان الاعتماد على أفضل العقول والمهارات في الإدارة والبحث. ويبدو أن مركز الإمارات للسياسات قد نجح في تخطي هذه العقبة. ففي مؤتمره المنعقد هذا الشهر، كان هناك نحو 300 مشارك من الولايات المتحدة، وأوروبا آسيا والمنطقة العربية.

لكن وجود الموارد المالية -رغم أهميتها- ليس كافياً وحده. وقد لفتت نظري عوامل أخرى، أذكر اثنين منها لضيق المساحة:

1- الدقة التنظيمية والتي تشمل التنظيم بالمعنى الحرفي من إرسال الدعوة وحتى الوصول، لكن أيضاً وجود إدارة شبابية -نسائية بالأخص- مؤهلة تجمع بين الكفاءة والدفء في الترحيب، علاوةً على دقة التنظيم التي تشمل أيضاً نوعية المتحدثين، وإدارة سبع الجلسات على مدى يومين من المناقشات الجادة ونحو 35 مداخلة من المشاركين، بخلفياتهم المهنية وجنسياتهم المختلفة.

2- الاتجاه المستقبلي في المداخلات، والمتسم بالحرفية ودقة المعلومات والبعيد عن الشعارات الرنانة، بدءاً من مناقشة تغير القوى الصاعدة والمتراجعة، وتحولات وسيناريوهات المشهد الاستراتيجي العربي، وأمن الفضاء المعلوماتي في ضوء التهديدات الجديدة والإلكترونية، وسيناريوهات مكافحة الإرهاب، وبالطبع السياسة الأميركية مع ترامب رئيساً.

أعتقد أن هذا المركز قادر على التقدم خطوة أخرى في تنظيم ورش عمل دورية للشباب، للتدريب والتعلم حول موضوعات الساعة. فما أحوج الشباب إلى التدريب على مثل هذه المهنية في موضوعات الواقع وتطوراته.