أحمد الغز

المملكة قدمت المساعدات الكبيرة للبنان في كل اتجاه دون تمييز بين طائفة وأخرى، وساعدت الدولة اللبنانية في استعادة وحدتها، وذلك عبر الدبلوماسية الجدية والمكثفة

تعاني مدينة بيروت من التضخم السياسي منذ عقود طويلة، وذلك بسبب اعتمادها ساحة للنزاعات السياسية والمسلحة في آن. والمعروف أن لبنان شهد أول نزاع أهلي مسلّح في دول الاستقلال العربي، وذلك في عام 1958 بين حلف بغداد من جهة، آنذاك مدعوما من الولايات المتحدة الأميركية ومعهم الرئيس اللبناني كميل شمعون وبعض القوى السياسية، ومن الجهة الأخرى ما عرف بدولة الوحدة المصرية السورية مدعومة من الاتحاد السوفياتي. وعلى إثرها حدث أول انشطار سياسي داخل المكونات الوطنية اللبنانية. 
أدى ذلك الانقسام العمودي في لبنان إلى مسلسل من التدخلات السياسية والأمنية، وترافق أيضا باستثمار كبير في الإعلام اللبناني حتى أصبح لكل دولة في المنطقة وسيلتها الإعلامية، بالإضافة إلى تشكيل أحزاب وتيارات سياسية متنوعة، منها المحلي والطائفي وصولاً إلى القومي السوري والعربي، بالإضافة إلى التيارات والأحزاب الشيوعية التي لقيت دعما موصوفا من دول المعسكر الاشتراكي. 
الأمور كانت تسير باستمرار باتجاه تصاعدي، خصوصا نتيجة للحرب الثقافية العميقة بين الثقافات الفرنكوفونية والانغلوسكسونية، والتي تمثلت بالبعثات البروتستانتية وفي مقدمتها الجامعة الأميركية في بيروت أواسط القرن التاسع عشر عام 1866، والبعثات الكاثولوكية المناوئة لها ومنها الجامعة اليسوعية عام 1875. وقد تحولت تلك الحرب الثقافية إلى حرب سياسية بعد استقلال لبنان في عام 1943، خصوصا أن لبنان نال استقلاله عن فرنسا المحتلة آنذاك وبدعم من بريطانيا التي كانت قد هزمت ألمانيا بقيادة روميل في معركة العلمين التي لو قدر لألمانيا أن تربحها لسيطرت على مصر وفلسطين وسورية ولبنان. 
بقيت فكرة الدولة الوطنية في لبنان هشة بسبب الخلاف العميق حول الهوية العربية للبنان الذي اعتبره دستور ما بعد الاستقلال ذا وجه عربي فقط، مما أحدث نزاعا سياسيا بين فريقي الاستعراب والاستغراب متخذاً شكلا طائفيا، حتى جاء اتفاق القاهرة عام 1969 الذي رعاه عبدالناصر وأجاز لمنظمة التحرير الفلسطينية حمل السلاح واستخدام الحدود اللبنانية في صراعها المسلح مع إسرائيل، مما قوّض أسباب الدولة والكيان والسيادة في لبنان، وتسبب بالنزاع المسلح في عام 1975 والذي أتى على العمران والاقتصاد، فارتكبت المجازر وبلغ عدد القتلى مئات الآلاف، كذلك المهجرين، ولم يبق نزاع في العالم أو المنطقة إلا واستضافه اللبنانيون حتى أصبح البلد بأكمله أشبه بحقل رماية أو ما عرف عنه آنذاك بساحة نزاعات بديلة أو نقطة حامية في زمن الحرب الباردة. ثم شهد لبنان احتلال إسرائيل في عام 1982 واحتلت بيروت العاصمة وخرجت منظمة التحرير من لبنان. 
تُرِك لبنان وحيدا يعاني آثار الحرب والدمار وهيمنة السوريين على جزء كبير، والجزء الآخر تحت الاحتلال الإسرائيلي. عندها لم يجد اللبنانيون سوى المملكة العربية السعودية للوقوف إلى جانبهم في محنتهم، مع العلم أن المملكة كانت قد استقبلت مئات آلاف الشبان اللبنانيين للعمل فيها خلال سنوات المحنة الطويلة، وقدمت المساعدات الكبيرة في كل اتجاه بدون تمييز بين طائفة وأخرى، وساعدت الدولة اللبنانية في استعادة وحدتها، وذلك عبر الدبلوماسية الجدية والمكثفة. فكانت مبادرة اجتماعات جنيف ثم لوزان في عام 1984 التي رعتها السعودية، ثم جاءت دعوتها إلى مؤتمر المصالحة الوطنية في مدينة الطائف السعودية في عام 1989، حيث اجتمع النواب اللبنانيون على مدى 3 أسابيع متواصلة وتوصلوا إلى تسوية تاريخية عرفت بـ(اتفاق الطائف) الذي حسم هوية لبنان في الفقرة "أ" من مقدمة الدستور والتي جاء فيها: "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه عربي الهوية والانتماء". ثم احتضنت السعودية إعادة الإعمار في لبنان حتى استعاد تألقه وأشقاءه قبل أن يعود ويتعثر من جديد في السنوات الماضية. كل هذه الأمور وغيرها من الذكريات الإيجابية للمملكة العربية السعودية لدى عموم اللبنانيين تحركت مجددا مع الزيارة الحدث التي قام بها الأمير خالد الفيصل، موفد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى بيروت. 
جاء مستشار الملك أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل إلى لبنان عشية الذكرى الثالثة والسبعين للاستقلال، حيث نقل تهنئة الملك سلمان للرئيس ميشال عون بانتخابه، ثم توجيه دعوة له لزيارة السعودية، والذي وعد بتلبية الدعوة على أن تكون الرياض المحطة الأولى لزياراته القادمة إلى المنطقة. ثم التقى رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال تمام سلام. ثم كانت زيارة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الذي أقام مأدبة عشاء على شرف مستشار خادم الحرمين الشريفين، حضرها كل رؤساء الأحزاب اللبنانية ومن كل الطوائف. وقد كان اجتماعا وطنيا لم تشهده بيروت منذ سنوات، وهو أن تجتمع كل هذه المتناقضات السياسية بهذه السهولة والإيجابية، مما يعكس مدى احترام عموم اللبنانيين لخادم الحرمين الشريفين وللمملكة. 
ألقى الأمير خالد الفيصل كلمة مقتضبة كعادته، حث فيها اللبنانيين على وحدتهم، والحفاظ على تجربتهم الوطنية، وعلى نجاحهم وتمايزهم كما كانوا دائما. 
واختصر موقف السعودية من لبنان بجملة بالغة الدقة والتعبير، وهي "نريد لبنان ملتقى وفاق لا ساحة خلاف".