سمير عطا الله
العام 1975، أطبقت علينا الحرب في لبنان، فيما كنا نظن أنها لا يمكن أن تقع. وانتشرت المتاريس والخنادق. ورأيت ذات يوم أمام مكتبي فتى يافعًا يمر راكضًا وهو يحمل رشاشًا في طوله. وشعرت فورًا بما شعر به الدكتور ريو في رواية «الطاعون» لألبير كامو، عندما رأى جرذًا نافقًا أمام المنزل، فأدرك أن الطاعون قد حل بالمدينة.
تزايدت علامات الضيق يومًا تلو آخر. ورأيتني على خلاف في وجهات النظر مع ناشر «الأسبوع العربي» الذي أوكل إليّ رئاسة التحرير في عقد مادي لا سابق له. وبسبب خلقه الرفيع، ازدادت حيرتي وضاق مأزقي.
ثم طغى على الساحة اللبنانية ما هو أقسى بكثير من جبهات القتال، المتقطع، حتى ذلك الوقت: عري النفس! وراح الطاعون يظهر في كتابات وشعارات وتصريحات تنم عن كوامن رهيبة. وتباعد الأصدقاء. وفقد الرفاق زمام الروابط القديمة. وأصابني ذعر مما رأيت وسمعت، إذ تحولت الصدور إلى ساحة حرب وضغائن، قبل أن تقام المتاريس وتحفر الخنادق وتنشر حواجز القتل على الهوية. وقررت أنه لا يمكن لي العيش في هذا البلد المتكسر بعد اليوم. لقد اعتدت من قبل على القراءة عن سقوط الناس في الحروب الأهلية، أما الآن، فإني أعيشها، في الطريق إلى البيت وإلى المكتب، وفي عناوين الصحف التي تشبه مناجل رواندا فيما بعد.
قررت السفر إلى أي مكان، إلى أن تكون النفوس قد هدأت، غير مدرك أن نفوس البشر بركان لا يهدأ إلا لينفث الحمم من جديد. ورحت أعرض أمامي الأمكنة المحتملة، باحثًا عن أبعد وأعزل مكان في العالم. وعن أرض لم تصل إليها حروب اللبنانيين وأحقادهم وسذاجتهم في السير خلف مجموعة من المروّضين. وكنت كلما فكرت في بلد، اكتشفت أن الأحزاب اللبنانية انتقلت إليه. وكان مزاجي بائسًا وحزينًا. والأكيد أنني كنت قد فقدت الكثير من صوابي، عندما وقعت على جزيرة تدعى «غرينلاند»، جزيرة جليد دنماركية تقع شمال الأطلسي، شرق كندا.
وجدتها! لا يمكن أن يكون بين سكانها الستين ألفًا، أي زميل لبناني يدعو «لاصطياد» الخصوم في عنوان الصفحة الأولى. بكل جدية، فكرت في «غرينلاند». لكن الله عاد ففتح أمامنا أبواب الهجرة إلى كندا، ومن ثم إلى بقية دياره. الأسبوع الماضي جاء في الأخبار أن «غرينلاند» بدأت تذوب، وأهلها بدأوا الجلاء عنها. الحمد لله.
التعليقات