عبدالله القفاري

هناك مخطط تغيير ديموغرافي ينفذ على ضوء نتائج هذا الصراع وتدمير المدن على رؤوس ساكنيها، وتهجير من تبقى منهم.. أما الميل الثأري للانتقام من الشعب الذي تطلع يوما للحرية والكرامة وحقوقه المهدرة فها نحن نرى كل يوم بعض أخباره الفاجعة..

المشهد الأول: (من بدايات الثورة السورية): جندي يصرخ وهو يطأ ببسطاره رقبة مواطن سوري يئن تحت الضرب بأعقاب البنادق، والدماء تسيل من رأسه وعلى جسده: "بدك حرية.. هيك الحرية.. بدك حرية.. هيك الحرية.."

المشهد الآخر وليس الأخير: رائحة الموت والدم والدمار تلف حلب، ودموع يرسلها أب مكلوم، وهو يلقي النظرة الأخيرة على مدينته عبر نافذة حافلة تقل من فيها لمواجع أخرى حيث التشرد والمنافي.. حيث محنة جديدة ومآس أخرى تطل من بعيد..

هذان المشهدان يبقيان عنوانا لصراع ربما يطول، ومازالت يومياته تصطبغ بالدم والدمار والتهجير والانتهاك الذي يفوق الوصف.

ومشهد حلب اليوم، ليس إلا امتداد قاس وعنيف، لذلك الصراع المختلف عما سواه.. وقد يرى البعض فيه عنوانا آخر، أن الشعوب العربية التي طالبت بالحرية هُزمت، وبالتالي هزمت الحرية باعتبارها الحق الإنساني الأول، والمفتاح الأساسي لكل حق إنساني وكرامة بشرية.. إلا أن تلك التضحيات الجسام، لن تكون أيضا سوى عنوان آخر بأن الصراع سيطول.. وأن حلب لن تكون سوى بدايات أخرى لويلات وحروب وصراعات تعكس هذا العطب المزمن في منطقة من العالم، حيث تتحالف فيها قوى الهيمنة مع أنظمة القهر لإعاقة قدرة الشعوب على التطلع لمعنى مختلف للدولة، ودور مختلف للحكم.. ولتبقى الكلمة الملعونة في قاموسهم "الحرية" كارثة على رؤوس طالبيها.. ولدفن ما تبقى من أمل تحت براميل عصابة النظام وجلاوزة النظام الدولي وقوى الطائفية التي اُستدعيت من مرقدها لتمزق ما تبقى في هذه المنطقة من مساحات التعايش أو الحياة.

لم تترك في العراق أو سورية وسيلة من وسائل الإخضاع وخلط الأوراق والإغراق في الدم والهدم لم تستخدم.. ومن أفضل من فصائل وحشود وتنظيمات متطرفة تجول وتصول.. لتقدم الذريعة لمواصلة هدم الإنسان وتقويض ممكناته بعد تمزيق أواصره وتشتيت ما تبقى له من قوة وضرب مقومات وجوده.

أما الشعب السوري الذين خرج للشارع في منتصف مارس 2011... فقد سرقت ثورته تحت عناوين شتى.. لم تبق من ملامحها سوى علم ونشيد الحرية وشعب مثخن بالجراح.. أما ما حدث بعد ذلك فهو لم يكن سوى جزء من خطة تستهدف مقومات وجود الأكثرية التي عانت لأكثر من نصف قرن من استنزاف وبطش وقمع وفشل النظام.

هل كان ثمة ربيع عربي؟ الربيع فصل يمكن قراءته وتلمس آثاره.. إنما كان فاصلا زمنيا قصيرا انبثقت فيه أحلام الحرية والكرامة ومطالب الانعتاق من دولة القمع والقهر والفساد.. لتستعيد أنظمة القمع والقهر ومن خلفها، زمام المبادرة عبر خلط الأوراق، وتمكين تنظيمات التطرف والإرهاب، لتكون الثمرة ما نرى اليوم على أكثر من صعيد ومشهد عربي.

ولحشد الدعم الدولي في مواجهة الإرهاب، نفذ التنظيم البشع أو من صنع على عينه عمليات أخرى في بلدان غربية معنية بما يحدث بالمنطقة، لتزيد الصورة إرباكا وتمكن من استعادة الزمام في معركة كسر عظم الشعوب التي تجرأت يوما لتطالب بحريتها وكرامتها وحقها الإنساني، وإعادة بناء الدولة على أسس مختلفة.

لم يعد يخفى هذا المسلسل على ذي بصر وبصيرة، إنما ما يخفى تلك القوى التي تقف خلف هذه الظاهرة الخطيرة التي عطلت كل أحلام الشعوب لتصبح بين سندان النظم القاتلة والتنظيمات المتطرفة.. وليدخل عنصر آخر في مشهد المواجهة لمزيد من الإثخان وهي طائفية الحشود القادمة من كل فج والراقدة في عقول شعوب خيم عليها الجهل والتجهيل.. لتتحول المعركة من جديد بين طوائف ومذاهب.. زادت ضبابية المشهد وسحقت الأمل بضوء في آخر النفق المعتم.

إنها صناعة الاستبداد، الذي لا يعيش سوى في دائرة تغذية الجهل والتجهيل.. والجهل ليس أفضل منه أداة للاستبداد.. لتتحول عبر حشد إعلامي واسع من ثورات وانتفاضات حقوق طبيعية من الصعب مواجهتها بالرفض إلى نظام يواجه تنظيمات التكفير والإرهاب.

من ينفي المؤامرة على أول ملمح لحق إنساني تخرج من أجله الشعوب، إنما يدس عينه في التراب لئلا يرى صورة كاملة لمشهد مضطرب ودام ومدمر.. إنها مؤامرة أكبر مما نتصور تقوم على حماية المستفيد الأكبر من مسلسل الهدم والتقويض والتفتيت والاقتتال على الهويات الصغرى.

هل ثمة درس في كل الذي يجري؟ بل هل ثمة متسع لإدراك شيء يمكن تحقيقه قبل فوات الأوان؟ أم سيظل تكرارا لمشهد الخديعة في غياب إدراك أبعاد المخطط الذي ترسم خرائطه من جديد في منطقة أصحبت عنوان الاضطراب في العالم.

مأساة حلب لن تكون النهاية.. هناك مخطط تغيير ديموغرافي ينفذ على ضوء نتائج هذا الصراع وتدمير المدن على رؤوس ساكنيها، وتهجير من تبقى منهم.. أما الميل الثأري للانتقام من الشعب الذي تطلع يوما للحرية والكرامة وحقوقه المهدرة فها نحن نرى كل يوم بعض أخباره الفاجعة.

ومع كل هذا فلا يتوقع أن تعود الأمور لسابق عهدها.. فالنظام قد يسيطر على مدن مهدمه أشبه بالمقابر المسكونة بالخوف والأشباح.. أما السيطرة على الشعوب بعد هذه الدماء وبعد ذلك الدمار وبعد تلك الثارات التي تشتعل في النفوس.. فليس من الممكن أن يعود كما كان.