عبد الرحمن الحبيب

إذا كان المثل يقول إنّ «الأمل سلاح»، فهو بالحروب سلاح فتاك لأنه يضخ بالمقاتلين روحاً معنوية بتوقع الانتصار.. لكنه، لاحقاً، يمكن أن يكون سلاحاً مضاداً حين يظهر أنه أمل واهم يمارسه قادة الجيش مؤقتاً ثم تتكشف حقائق مناقضة تهوي بالمعنويات في الحضيض..

يمكن للنظام السوري أن ينتشي مؤقتاً بهذا الأمل الواهم بعد سقوط مدينة حلب، لكن البحث عن سلام في سوريا يتطلب حلاً يرضي كافة الأطراف وأهمها غالبية الشعب السوري من أجل سلام نهائي ومستقر، أما إخضاع هذا الشعب بالقوة العسكرية فهو كإطفاء لنيران وترك الجمر تحت الرماد يمكن أن يشتعل في أية لحظة؛ فالنظام السوري لم يكن قادراً على حسم المعارك وكان يتهاوى لولا الدعم الروسي والإيراني، الذي لن يكون بلا ثمن باهظ ولن يكون مستديماً من ناحية الروس.. المستديم هو الشعب.

سقطت مدينة حلب بعد شهور من حصار وتجويع وقصف من قوات النظام ومعها القوات الروسية والإيرانية والمليشيات الطائفية التي تدعمها إيران، وبعد عرقلة المساعدات الإنسانية والغذائية على قلّتها؛ فهل شارفت الحرب على نهايتها، وهل قارب الحل السياسي على وضع أطره الأخيرة؟ لقد انتهت معركة أساسية أبعدت النظام السوري، وإن مؤقتاً، عن الخطر العسكري ضد وجوده، لكن لم تنته الحرب بل حتى لم يقترب الحل السياسي عما كان عليه.. فأهمية حلب الأساسية أنها العاصمة الاقتصادية لسوريا، لكن سياسة الأرض المحروقة والتدمير الشامل التي مورست ضدها أفقدت هذه المدينة لجزء كبير من أهميتها.. فما هي السيناريوهات المتوقعة لهذه المأساة؟

من الناحية الميدانية المباشرة، فمقاتلو المعارضة يتوجهون لمحافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة بالكامل، ومن المتوقع أن ينشب نزاع شرس عليها لتشكل ذروة المرحلة التالية من الصراع الذي يبدو بعيداً عن نهايته. لا ننسَ أنه قبل هذه المرحلة لازالت مناطق شاسعة (ثلثا مساحة سوريا) لا يسيطر عليها النظام المفتقر للعدد الكافي للمواجهة في مناطق النزاع الرئيسية.

من هنا، فالمتوقع أن يلجأ النظام السوري نحو المفاوضات، لكن بشروط أكثر تعنتاً من السابق. فرغم الدعم الروسي والإيراني من المستبعد أن تتمكن قوات النظام من استعادة الأراضي، على الأقل ليس كلها، مما سيشكل حرب استنزاف للنظام ولحلفائه.. وإذا كان الروس استخدموا النموذج «الشيشاني» في حربهم على المعارضة السورية، فإنّ تلك المعارضة قد تستخدم النموذج «الأفغاني». لذا قد يمارس الروس مزيداً من الضغط على بشار الأسد للتوجه نحو مفاوضات جدية، الأمر الذي لم يفعله حتى الآن.. فإن طال أمد هذه الحرب ولم تجد المفاوضات نفعاً فقد تواجه سوريا حالة انقسام كدولة ولن يستقر السلام فيها.

كيف يمكن مواجهة ذلك؟ يقول الباحث الأمريكي أندرو تابلر (صحيفة أتلانتك): «محادثاتي مع الروس تشير إلى أنهم لا يرغبون في نشر المزيد من القوات البرية في سوريا. كما أنهم يدركون أن الميليشيات الشيعية ليست حلّاً على المدى الطويل.. ولكن من أجل انسحاب روسيا من الصراع السوري، تحتاج إلى حلّ سياسي نهائي ومستقر، وإلى دخول الرئيس الأسد في محادثات سياسية جدية مع المعارضة لإعادة توحيد سوريا. إنما، تكمن المشكلة في أن الرئيس الأسد متشبّث بعدم اهتمامه بمثل هذه الخطوة. وبالتالي، يتمثّل التحدي الأول أمام إدارة ترامب في كيفية العمل بفطنة ودهاء على تفرقة روسيا وإيران في سوريا.»

من الناحية الاجتماعية السياسية، لا تزال العوامل التي أدت إلى احتجاج وتمرد الشعب السوري ضد نظامه القمعي ماثلة وتتفاقم، ولو كسب النظام بعض الأراضي أو حتى كلها، إذ لا تبدو في الأفق أية ملامح عن محاولة النظام لإجراء إصلاحات لا فعلية ولا شكلية، بل إن فظائع نظام الأسد ستضيف مزيداً من التشكيك في أهليته سياسياً وإنسانياً لإدارة البلاد، وستزيد معها حالات التطرف من الجانبين: المعارضة والموالاة..

قد يبدو ظاهرياً أن روسيا وطدت نفوذها الاستراتيجي في المنطقة وأكدت للغرب قوّتها واستعادة قدرتها السابقة كوريثة للاتحاد السوفييتي، فالهدف الرئيسي للتدخل الروسي لإنقاذ الأسد هو لتثبيت نفوذها ومنافسة النفوذ الأمريكي والغربي عموماً في المنطقة وما جاورها، فيما تمر الإدارة الأمريكية بمرحلة انتقال سياسي تقوم به الإدارة السياسية الحالية بتسيير أعمال أكثر من دخولها في قرارات استراتيجية التي ستُترك للإدارة القادمة، وهو ما تستغله الآن روسيا بأقسى ما يمكنها لفرض أمر واقع يصعب تجاوزه..

من الناحية الإنسانية، ولعله الأهم، فما حدث في حلب هو مأساة دموية يندى لها جبين البشرية جمعاء بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حتى وإن تذرّع النظام بحربه على الإرهاب، فالمنظمات المتطرفة المتفرعة من تنظيم القاعدة (جبهة النصرة وفتح الشام) تشكل نسبة ضئيلة جداً من المتمردين في حلب، بينما الإرهابيون كداعش يقبعون في مناطق أخرى دون ضربات جدية تُذكر. هذه الجرائم البشعة سيبقى لها آثار لاحقة يصعب التكهن بها على المدى البعيد، أما على المدى القريب فهي يمكن أن تزيد نسبة المتطرفين فالناس عندما لا يرون أفقاً للخروج من مآسيهم قد يستخدمون وسائل متطرفة..