&أيمـن الـحـمـاد

لا غرابة أن يحتل جهاز اتصالي أهمية بأن يكون موضوعاً لمقالٍ افتتاحي، والحق يقال بأن الأجهزة من تلفزيون وإذاعة وهاتف كلها كانت محل اهتمام حكومات الدول، إذ كان يصاحب تدشينها في أي دولة مراسم احتفالية.. الجهاز الذي يستحق منا الاهتمام اليوم هو "الجوال" الذي يعيد صياغة أسلوب حياتنا، ويكيّفها كما يريد؛ ليس كما نريد، وهذا بعكس باقي المخترعات التكنولوجية.. فكيف يحدث ذلك؟

قاد الجوال اليوم شكل حياتنا الاجتماعية إلى ظاهرتين مخيفتين: الإدمان والعزلة، فالكل صنع عالمه عبر تطبيقاته المختلفة: واتس آب، تويتر، سناب شات، انستغرام.. فيسبوك، الخ... فالتلفاز الذي قيل إنه حرم العائلة التواصل والتفاعل، جاء الجوال ليكرّس ذلك، بل ويعمّقه بطريقة مغرية، فالعائلة في مكان واحد وقلوبها شتّى، الظريف أنهم يلتقون عبر العالم الافتراضي ليتبادلوا الرأي والاهتمام، بينما لا يفصلهم عن بعضهم سوى أمتار قليلة، وهذا يأخذنا إلى مفهوم التشظّي المجتمعي الذي نعاني منه اليوم.

نراهن عزيزي القارئ وأنت تتفضل بقراءة هذا المقال أن جميع أو جلّ من حولك منهمكون وقد أطرقوا رؤوسهم محدقين في جوالاتهم، حتى أنت ربما تقرأ هذه المقالة من جوالك الخاص.

عندما تقود سيارتك وتلتفت يميناً وشمالاً أجزم أنك سترى من يتصفح جواله، بينما السيارة تعبر عباب الشوارع، وهناك إحصائية تقول إن حوالي 70% من الحوادث مردها إلى هذا الجهاز الساحر، الذي نشعر بالضيق عندما يفلت من أيدينا لدقائق.

حتى صناعة الإعلام والترفيه أصبحت مرهونة بتطوير تطبيقات لتتكيف مع خصائص الجوال وحجمه وقدراته التقنية.. أفضلية الجوال على باقي الوسائل الاتصالية أنه الوسيلة التي نستطيع حملها معنا في كل مكان، وهذا لم يحدث طوال التاريخ، فلكل وسيلة قدرات محدودة ومحطة وصول لا تستطيع تجاوزها إلا الجوال الذي يخترق كل الخصوصيات والحواجز، فهو السلاح لتصوير المقصرين، وهو المسلي للباحث عن التسلية، وهو المعلم للمفتش عن المعرفة.

ولهذا كان الإغراء للنفس البشرية اللاهثة على الدوام نحو الاكتشاف، فالصفحة تجر صفحة، والبرنامج يجر برنامجاً.. وهكذا، حتى نتدارك أنفسنا فنجد أن الوقت قد مضى أمام هذه الشاشة الصغيرة التي صنعت لنا حياة رديفة لحياتنا الطبيعية، حيث يمكن أن نتواصل صوتاً وصورة ونشتري ونبيع، حتى بلغت تغييراته عمودنا الفقري الذي احدودب بفضل انكباب رؤوسنا على شاشته.

لقد استطاع الجوال أن يكوّن ويشكّل اقتصادياته؛ شأنه في ذلك شأن أي وسيلة اتصالية أخرى، فقد غدت الشركات الاستهلاكية وغيرها مرغمة على تطويع تطبيقاتها لتتلاءم مع نسق الهاتف المحمول، وتخطب ود التقرب منه طمعاً في الحصول على مزاياه؛ وأهمها الصفة الاكتساحية التي أعلت من شأنه أمام نظرائه من وسائل الإعلام والاتصال.

لقد فرض الهاتف المحمول نفسه رقماً حاضراً في السياسة والأمن والعلاقات الدولية والأنظمة.. في الوقت الحالي تدور معركة بين شركة "أبل" والمباحث الفيدرالية الأميركية حول طلب الأخيرة فك شفرة جوال "سيد فاروق" الإرهابي الذي قتل 14 شخصاً في أميركا، في حين ترفض الشركة هذ الطلب بحجة سرية المعلومات.. وفي باريس قامت مظاهرة عريضة لقائدي سيارات الأجرة؛ والسبب تطبيق يثبّت على جهاز الهاتف النقال يمكن معه استدعاء سيارة أجرة لا تنتمي إلى شركات الأجرة المعروفة ما تسبب في خسائر للسيارات الصفراء، والأمر بلغ عدداً من العواصم حول العالم بدأت تسأل عن قانونية هذا البرنامج في أنظمتها.

كل ملاحظة يمكن التقاطها في ظاهرة الجوال قد تحوّل إلى بحث بدءاً من آثاره الاجتماعية، مروراً بالصحية، وليس انتهاءً بالسياسية والاقتصادية منها، ما يجعلنا نتساءل: هل موجة الجوال لا تزال في تصاعد، أم هل بلغنا مع هذا الجهاز ثورة الاتصال المُعولم؟ أم لا يزال للتقنية بقية؟