&لؤي حسين

بغض النظر عن الموقف من روسيا ومن دعمها النظام السوري، بل من تدخلها العسكري في سورية أيضاً، وبغض النظر كذلك عن الموقف من النظام وما نتمناه له، فإن انسحاب القوات الروسية من سورية بهذا الشكل المفاجئ ليس لمصلحة سورية والسوريين. هذا لأن العملية السياسية التي بدأت في شكل حاسم بقرار وقف إطلاق النار وانطلاق العملية التفاوضية في جنيف تقوم على معادلة توازن قوى دقيق، وقسمة ضمانات تتكفل فيها روسيا ضمان النظام وتتكفل إيران ضمان المجموعات الشيعية و «حزب الله»، في مقابل أن تتكفل الولايات المتحدة التزام الدول الإقليمية الداعمة للمجموعات المسلحة المناوئة للنظام السوري.

وهذا الضمان يقوم على ثلاثة مستويات، ضمان وقف القتال، وضمان مقاتلة «داعش والنصرة»، وضمان المشاركة في العملية السياسية التسووية.

الانسحاب الروسي جاء مفاجئاً وغير متوقع ومن دون مقدمات، إذ إنه وحتى بعد ظهر الاثنين الماضي كان الروس ما زالوا يتعاملون مع الوضع السوري باعتبارهم طرفاً رئيساً في العملية السياسية السورية على جميع الأصعدة، يحصون عدد الخروقات التي قامت بها الفصائل المعارضة، ويعلنون عن اتفاقات وقف إطلاق النار مع مجموعات مسلحة، بل يرسلون شخصيات سورية تمثل قوى وتيارات سياسية للمشاركة في اجتماعات جنيف التي انطلقت صباح ذاك اليوم. كل ذلك كان يجري كالمعتاد إلى أن صدرت تصريحات الكرملين تعلن عن اتصال جرى بين الرئيسين الروسي والسوري أبلغ فيه بوتين الأسد بأنه سيسحب الجزء الأكبر من قواته.

غير معروف الحديث الذي دار بين الرجلين، لكنني أعتقد أن تصريح وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، في اليوم السابق الذي قال فيه «لا يحق لدي ميستورا ولا لغيره كائناً من كان أن يتحدث عن انتخابات رئاسية»، لم يكن عبارة تفاوضية القصد منها الرد على تصريحات المعارضة بأنها ستشارك فقط في مفاوضات عن هيئة حكم انتقالية من دون بشار الأسد، بل إنه أثار حفيظة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، الذي رفض ادعاءات المعلم التي تناقض التعهدات الروسية والإيرانية أيضاً، وفق قوله.

وأغلب الظن أن الوزير الأميركي أخبر نظيره الروسي بضرورة امتناع المعلم أو أركان النظام السوري عن مثل هذه التصريحات. لكن أغلب الظن أن السيد لافروف لم يلق استجابة مرضية من المعلم، ما استدعى اتصالاً تلفونياً من بوتين للأسد طلب فيه الزعيم الروسي الالتزام بما اتفقت عليه روسيا مع الولايات المتحدة، أو في حال عدم الالتزام سيكون مضطراً لسحب قواته من سورية.

ربما كان الرئيس بوتين يعتقد بأن الرئيس السوري لا بد أنه بدأ يشعر بعدم مقدرته على الانتصار من دون وجود القوات الروسية، وأنه آن لهذه القوات، وفق ما نعتقد أنه تصور بوتين، أن تحصد بعض النتائج التي جاءت من أجلها، أي إخضاع الأسد وإرادته لمشيئة قائد هذه القوات. لكن، وبالنظر إلى معرفتنا بحجم اعتداد الأسد بكونه بات رئيساً منتخباً، ولو بانتخابات زائفة، وأنه لم يعد مجرد وريث لأبيه، يمكننا أن نتصور رفضاً متعنتاً منه لطلب الرئيس بوتين الذي اضطر أمام هذا الموقف لاتخاذ قرار سحب القوات.

إن صح هذا التصور لما جرى بعد ظهر يوم الاثنين الماضي، وأعتقد أنه صحيح، فإن تداعياته على سورية والسوريين ستكون مصيبة. إذ في أغلب الظن أن يؤدي هذا الأمر إلى انهيار العملية السياسية برمتها، بما في ذلك وقف إطلاق النار الذي نجح لأكثر من أسبوعين في تخفيض نسبة العنف في البلاد بنسبة تفوق ٩٠ في المئة. فلن يكون في مقدور روسيا بعد انسحابها أن تضمن أي شيء يتعلق بالنظام، بل لن تقبل أميركا منها بعد الآن أي ضمانة، وهذا يعني بوضوح انهيار مسألة الضمانات التي تقوم عليها العملية السياسية لحل الأزمة السورية.

إذاً ستكون سورية تحت تهديد انهيار الأوضاع فيها إلى أسوأ بكثير مما كانت عليه، إذ سيختل التوازن الذي تمكّن من الحفاظ على عدم انتصار أي طرف من أطراف النزاع المسلح على الآخر. فعلى الأغلب ستتخلى القيادة الروسية عن حماية الأسد ونظامه، وستتركه يواجه مصيره وحيداً نتيجة الجرح الذي سببه لها، ظناً منها أنه سيعود إليها مستنجداً وخاضعاً. وفي المقابل فإن الدول الإقليمية المعادية للأسد ستقتنص هذه الفرصة وتحاول الدفع بالمجموعات المسلحة التي تدعمها إلى خرق وقف إطلاق النار بحجة الدفاع عن النفس، لنعود حينها إلى دوامة عنف أكثر انفلاتاً هذه المرة.

لكن هذا الموضوع بكله وبتفاصيله لا يخدم التوجه الأميركي الجديد الذي اعتمدته واشنطن منذ اجتماع فيينا الثاني، وهو التوجه إلى القضاء على «داعش» وعدم الاكتفاء بمناوشتها أو التضييق عليها، والذي بناء عليه وافقت واشنطن على التعاون مع روسيا للبدء بعملية سياسية تمكّنها من تجيير جميع المقاتلين في سورية لمعركتها ضد «داعش». فمن المستبعد أن تترك واشنطن الأمور تذهب باتجاه المزيد من الفوضى المنفلتة، بل بكل تأكيد ستكون حريصة على ألا تسمح للفوضى أن تعم دمشق، وهذا مطلب إسرائيلي صرف. لكن من غير المؤكد أن تنجح في ذلك، إذ إن تعقيدات الأوضاع الميدانية في سورية قد تحول دون مقدرة واشنطن على ضبط الأمور وتسييرها كما تريد، وهذا قد يدفعها في حال ذهبت الأمور في هذا الاتجاه إلى اختيار التعاون العسكري المباشر مع النظام السوري، بما يخالف توقعات ورغبات الغالبية من المعارضين وداعميهم.

من غير المعروف إن كان موقف الأسد مبنياً على تنسيق مع إيران أم أنه ارتجل موقفه من دون استشارة طهران، وهذا هو المرجح، إذ لا مصلحة ظاهرية لطهران في مخالفة التوجهات الدولية بحيث تعود دولة مارقة بعد نجاحها في التوصل إلى اتفاق نووي.

وهذا ربما يجعلنا نتوقع ضغطاً إيرانياً على الأسد للقبول ببعض ما يطرحه الروس، مع عدم ضمان ألا يقوم الأسد بصفق الباب في وجه طهران كما صفقه في وجه بوتين، فالرجل فقد جميع معايير معرفة الأخطار.