روعة قاسم

&&صحافية تونسية حاولت الانتحار حرقا بعد «الثورة». صحافيو جريدة «التونسية» يخوضون منذ أكثر من شهر معركة للدفاع عن حقوقهم المنقوصة. إعلاميو إذاعة «شمس اف ام» دخلوا أيضا في تحرك منذ قرابة الشهر للمطالبة بحقوقهم المهدورة، وقبل ذلك بسنتين شهدنا انتفاضة أبناء «دار الصباح» من أجل عدم وضع اليد على مؤسستهم الإعلامية المصادرة. ذلك هو حال الإعلام في تونس اليوم. فبين حرية مقيدة وحقوق منقوصة يبقى حق الحصول على المعلومة وعدم مهادنة القلم ونقل الواقع بحرية وشفافية مهددا بتحديات عديدة.

فالإعلام في تونس هو جزء من هذا المخاض الذي عاشته البلاد وجزء من مسيرة انتقالها الديمقراطي، يتعرض العاملون فيه لضغوطات يومية تثقل كاهل قلمهم وبحثهم اليومي والمنهك عن الخبر والمعلومة لنقلها للرأي العام. السلطة الرابعة في تونس ورغم مضي أكثر من خمس سنوات على حراك 14 يناير، لم تصل بعد إلى تحرير أقلام صحافييها، ولا تزال الانتهازية مخيمة على المشهد في ظل عقود عمل هشة لا تستجيب لتطلعات الصحافيين وفرسان الكلمة الحرة.

«صحافية حاولت الانتحار حرقا بعد أربع سنوات من الثورة- اندلعت، خلتها حررت الإعلام، منحتنا حق التعبير وحررت أصواتنا، وخلتها حررت القطاع من الفساد-» بتلك الكلمات تتوجه الصحافية سهام عمار إلى «القدس العربي» متحسرة على وضع الإعلام في تونس وتتابع:«يقال أنني صحافية تألقت في تغطية الشأن السياسي وفي تغطية التحركات الاجتماعية، ويقال أيضا أنني انتصرت وزملائي خاصّة الشبان للقضايا الإنسانية ولمختلف المطالب الاجتماعية لمهن مختلفة. صفات كفيلة أن تمنحني وزملائي المجتهدين مرتبة مهنية متقدمة ووضعيّة مالية مستقرّة. غير أنني وجدتني أتنقل من مؤسسة إلى أخرى بحثا عن حقوق اقتصادية واجتماعية وعن مناخ سليم للعمل الصحافي. دون أن أتمكن من البت في رفع المظالم المسلّطة على الصحافيين». وتضيف:»هنا في أعماق مهنة الاحتراق: الصورة غير لامعة كما تبدو. هنا وهم الحقيقة. وهنا مرارة التشغيل الهشّ بعقود لا تمنحك أجرك المحترم في ظل واقع اقتصادي متضخّم ماليا ومغرق في الأنانية. من يتحكّم برقاب الإعلاميين ويفتح مؤسسات صحافية هم رجال المال والسياسة. كل يبحث عن منبر إعلامي يجيز له خدمة مصالحه وضرب منافسيه. يتم توظيفك في مؤسسة إعلاميّة تغدق عليك نعمة فتح كل ملفات الفساد مثلا. ويحثك مديرك على زعزعة استقرار الآخر الفاسد. لكن حاذر أن تنبس ببنت شفة عما يدور في مؤسستك الأم، من إغراق القطاع بغير المهنيين زلفى، ومحاباة للأحباب بمنحهم جواز سفر في عالم الأضواء دون إعارة اهتمام لما تتطلبه المهنة من دراية وتكوين واحترام لأسسها وأخلاقياتها».

&

عقود عمل هشة

&

سهام عمار التي أقدمت على الانتحار يوم 11 ايلول/سبتمبر 2015 احتجاجا على وضعها تحدثت لـ «القدس العربي» عن تجربتها الأليمة قائلة: «كثيرون استغربوا إقدامي على محاولة الانتحار ولم يتساءلوا ما الغريب في ذلك بعد سنوات من الإحتراق الذاتي دون تأطير نفسي واجتماعي واستقرار في الوضعية الماديّة. فنحن في مهنة أحرقتنا عمليا، صحافية ميدانية ومحررة يوميا لمقالات تناولت مختلف قضايا الناس لم يكن بوسعي الكتابة عن الوضع الصحافي المهين. كيف تكتب وتفضح ظروف توظيفك في مؤسسات لا تمنحك نصف حقوقك المادية والمعنوية؟ ستجد نفسك بين خيار الفضح وخيار الاستغناء عنك. هنا اكتفيت بالصمت مفضلة مورد رزق هزيل على الدخول في نفق البطالة». وتضيف:»كنت أشغل نفسي في العمل اليومي ممنية النفس بالتحرر من قيود الظلم، علّ السلطات تمنحنا حقا مشروعا، عل الهياكل المشرفة على القطاع تفتك ما نحلم به. مرت سنوات منذ الثورة وتحركاتنا النضالية انحصرت في الحفاظ على مكسب حرية التعبير من التعدي عليه ولازمنا خوف من اجهاض المكسب السراب». وتوضح:»عينت رئيس تحرير لقسم الأخبار بعد الاتفاق على صلاحيات تمكنني من النأي بالمهنة عن الخوض في مسائل هامشية والاتفاق على خط تحرير يعنى بمسائل جوهرية ويطرح ما ينفع الناس كمحاربة الفساد، وعند مجرّد التعبير عن رأيي الرافض لطريقة اختيار الصحافيين تم الاستغناء عني. وجدت نفسي في مواجهة بطش المستثمر وفراغ قانوني لا يكفل حق الصحافي. القضيّة قبل أن تكون شغليّة بحتة هي قضية تعبير عن الرأي».

وتؤكد عمار:»مظالم عدة نتعرض لها، بين تجاهل السلطة وفراغ الترسانة التشريعية المنظمة للقطاع. مهنة الصحافة هي المهنة الوحيدة التي تعيش في تونس مستندة إلى تشريعات صاغها أيا كان اختصاصه عدا أهل المهنة، وحتى إن سمح لهم بالمشاركة فتمثيليتهم ضئيلة في لجان الإعداد والتشريع».

وتضيف قائلة: «هو مكسب سراب إذا دققنا النظر فيه فنحن لسنا أحرارا فعلا في طرح مختلف المواضيع .. نقف اليوم على حقيقة أن قطاع الإعلام يتم التحكم فيه بالمعلومة التي لا يمكننا النفاذ إليها متى أردنا. من حين لآخر تلقى لنا أحداث على قارعة الطريق فنهرول نحوها للتغطية ونتناولها بالنقد والتحليل. هل هذا منابنا من التحرّر؟ نحن نلحق الأحداث لاهثين وراء معلومة غير عادية.

هل يمكننا صناعة الحدث وكشف حقيقة غير متناولة؟ قطعا لا، فالمعلومة اليوم بوليسية بامتياز، تحركنا الأحداث الإرهابية دون أن نتمكن من كشف من يدير اللعبة».

قبل أشهر توجهت الصحافية رئيسة تحرير أول في صحيفة «الصباح» اليومية التونسية آسيا العتروس برسالة في عيد الجريدة الخامس والستين شرحت فيها أوضاع الصحافيين وتطلعاتهم في ظل مهنة المتاعب. آسيا العتروس قالت لـ «القدس العربي»: «لامني العديد من زملائي على هذه الرسالة لكن هذا هو الواقع». وتتابع بالقول: «هناك حاجة إلى إصلاحات جذرية ومراجعة ما يستوجب المراجعة والاستعداد لكسب رهان المرحلة وتقديم إعلام هادف يرتقي إلى تطلعات الرأي العام ولكن للأسف كل هذا لم يحدث وتحولت ذكرى تأسيس صحيفتنا إلى مناسبة كالعادة لالتقاط الصور واستقبال المسؤولين وإطفاء الشموع». وأضافت: «لا بد من التوقف عند بعض المسائل المصيرية التي بدونها لا يمكن في اعتقادنا الاستمرار والمواصلة بالجدية المطلوبة، فالمؤسسات كما الشعوب والحضارات والبشر ومهما تحقق لها من درجات الإرتقاء تحتاج في مراحل وجودها إلى التوقف لتأمل ما تحقق وما لم يتحقق حتى تتجنب كل أسباب الجمود والتراجع الذي يؤدي حتما إلى الإنهيار في مرحلة لاحقة إذا لم تسع إلى تطعيم وتجديد مواردها ولم تحاول الاستثمار أكثر في امكانياتها في الحاضر والمستقبل».

وأضافت:»التراجع في المشهد الإعلامي لا يكاد يستثني منبرا أو مؤسسة إعلامية حتى أنه بات سمة المرحلة إلى درجة أنه لم يعد بالإمكان التمييز بين صحيفة وأخرى، بل لعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أن غياب هيئة أو مجلس أعلى للصحافة يهتم بتقييم الصحافة المكتوبة وتعديل المشهد واصلاح ما يستوجب الإصلاح يجعل الوضع سيئا…لن ندخل في تفاصيل العمل اليومي ولا في مختلف أنواع الهرسلة التي قد تبدو ممنهجة في أحيان كثيرة ومحاولات التقزيم والتهميش والاقصاء المسجلة منذ الانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 فتلك مسألة يمكن التعرض لها باطناب في غير هذا الموضع».

وأضافت: «بعد صراع لم يكن بالهين ضد كل محاولات الترويكا السابقة للهيمنة على مؤسسة «دار الصباح» وبعد معركة لا نزال نعتقد بأنها كانت حاسمة ومفصلية في تحريك المجتمع المدني في تونس نجد اليوم أنفسنا في حالة من الجمود والتخبط في الإحباط في غياب الإصلاح الموعود».

وتتابع العتروس بالقول: «ليس من الطبيعي اليوم أن يستمر العمل في أعرق الصحف في البلاد دون وجود هيئة تحرير تشرف على الخط التحريري لصحف الدار. وقالت «من حقنا اليوم أن نتساءل لا عن مصير المؤسسة باعتبارها من الأملاك المصادرة، ولكن وهذا الأهم، عن مصير الإصلاحات التي حلمنا بها وطالبنا بها بعد الثورة لتكريس وضمان ثقافة حرية الإعلام وتهيئة الأرضية للمهنية والاستقلالية بعيدا عن كل أشكال الرداءة والابتذال والإثارة. ان قناعتنا أنه كلما بكرنا في ترسيخ ذلك كلما فرضنا على المالك الجديد للدار مهما كان انتماؤه السياسي والايديولوجي احترام تلك المكاسب وتعزيزها بما يخدم المشهد الإعلامي ومصلحة الإعلاميين».

&

تعددية وهامش من الحرية

&

من جانبه أكد الصحافي والكاتب التونسي الهادي يحمد لـ «القدس العربي» أن وضع الصحافة في تونس ما بعد الثورة قد شهد تغييرا مهما، تغيير شمل أساسا هامش حرية التعبير كما مس التعددية التي أصبحت تتميز بها وسائل الإعلام التونسية. ويضيف بالقول: «تعددية المحتوى وتعددية في اشكال وسائل التعبير. حيث مكنت الثورة التونسية وسائل الإعلام التونسية على اختلاف توجهاتها وخطوطها التحريرية من هامش كبير من الحرية تكسرت بموجبه كل الخطوط الحمراء تقريبا وأصبح لها دور مهم في تحديد الخريطة السياسية ونقد المظاهر الاجتماعية وتموقعت في أحيان كثيرة كسلطة رابعة حقيقية إلى جانب السلط الأخرى، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية».

ويستطرد بالقول: «غير ان الهامش الكبير الذي أصبحت تلعبه وسائل الإعلام في الواقع التونسي الجديد لم يحل دون تبيان العديد من السلبيات والنقائص وخاصة تلك المتعلقة بدخول رؤوس الأموال الفاسدة على الخط فضلا عن المشاحنات العقائدية والسياسية التي قسمت وسائل الإعلام وجعلتها تخضع للاستقطاب السياسي الموجود في البلاد».

ويلفت محدثنا النظر إلى ان احد اكبر الهانات التي بقيت تعاني منها وسائل الإعلام بشكل خاص هو الوضع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه عدد كبير من الصحافيين في غياب الظروف الدنيا للعمل المريح إضافة إلى غياب التغطية الاجتماعية لعدد منهم. هذا الواقع كشفته الأزمة المستفحلة في العديد من وسائل الإعلام المكتوبة كأزمة جريدة التونسية التي ظهرت مؤخرا، كما كشفته الاجور المتدنية التي يعيش بها قطاع كبير من الصحافيين التونسيين وهو الأمر الذي نصت عليه العديد من تقارير المنظمات والهياكل المهنية».

&

وضع المؤسسات المصادرة

&

خولة السليتي صحافية في اذاعة «شمس اف ام» المصادرة بعد «الثورة» والتي يقود أبناؤها أيضا منذ مدة حراكا للمطالبة بعدم تفويت في المؤسسة إلى القطاع الخاص والحفاظ على استقلاليتها وحقوق صحفييها توضح لـ « القدس العربي :» بصفة عامة نؤكد ان المكسب الأساسي للثورة هو حرية الإعلام لكن اليوم وللأسف لا يمكن الحديث عن حرية إعلام مطلقة في ظل وجود انتهاك واضح وصارخ لحقوق الصحافيين. إذ تصعب مطالبة صحافي بان يقوم بواجبه على أكمل وجه واحترام حقوقه لأخلاقيات المهنة الصحافية في حين ان المؤجر لا يقدم له حقوقه كاملة وهذا يمكن ان يفتح الباب أمام الصحافي ليبيع ذمته». وتضيف السليتي: «شمس اف ام» هي مؤسسة إعلامية مصادرة تقع تحت اشراف الدولة ولجنة التصرف في الأموال المصادرة، ونحن ليست لدينا مشكلة بمستوى الخط التحريري باعتبار ان لدينا هيئة للتحرير وربما لا وجود لها في مؤسسات إعلامية أخرى. وهذا ما جعل إذاعتنا الأكثر حيادية بحسب تقرير الهايكا في انتخابات 23 تشرين الاول/اكتوبر 2011 أو حتى في الانتخابات التشريعية». وتضيف، «في المقابل فان الوضعيات المالية للصحافيين سيئة رغم انهم يتعرضون لمخاطر عديدة أثناء تغطياتهم الإعلامية. ونحن ندافع عن صوت الحق ونسعى لإيصاله، فالصحافي دخل إلى مرحلة بات فيها ينسى همومه وهو ينقل مشاكل الناس اقتناعا منه بأهمية الرسالة الإعلامية التي يحملها». اليوم مثلا في مؤسسة إعلامية مثل «شمس اف ام» التي تحتل ربما المرتبة الثانية في تونس من حيث نسبة الاستماع، لا يأخذ الصحافيون منح الإنتاج والخطر. وقد بدأنا نتحرك منذ فترة وطرقنا كل الأبواب ودعونا المسؤولين في الدولة لتحمل مسؤولياتهم ولا نريد ان يكون مصير المؤسسة مهددا بالإفلاس. وسنواصل معركتنا ونضالنا من أجل حقوقنا. لقد دخلنا مرحلة الاضراب واتصلنا بوزير المالية باعتباره رئيس لجنة التصرف في الأموال المصادرة وكل ما حصلنا عليه هو وعود لا غير. والأكيد أننا سنواصل تحركاتنا النضالية».