&عبدالله بن بجاد العتيبي&&

لا يمكن لأي متابعٍ إنكار ضخامة الجهد المبذول، في بناء الرؤية الوطنية للمملكة العربية السعودية، ولا يمكن أيضًا إنكار حجم الجهد المبذول في برنامج التحول الوطني الذي تم الإعلان عنه الأسبوع الماضي على مدى ثلاثة أيام متتابعةٍ في مؤتمراتٍ صحافيةٍ مفتوحةٍ للوزراء المعنيين تم بثها على الهواء مباشرةً.

ثمة فوارق لها أهميتها بين الرؤية وبرنامج التحول، أولها الزمن، فالرؤية تستهدف 2030 بينما التحول يستهدف 2020، وثانيها: الغاية، فغاية الرؤية هي نقلةٌ نوعيةٌ كبرى تدفع بالسعودية بقوة نحو المستقبل فيما غاية التحول هي إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في الأداء الحكومي. وثالثها: الطبيعة، فطبيعة الرؤية هي بناء فلسفةٍ شموليةٍ للدولة، وطبيعة التحوّل هي تطويرٌ إداري معني بالحكومة وتطوير آلياتها ومؤسساتها لتصبح أكثر مرونةً وفعاليةً.

بنية برنامج التحول الوطني مبنيةٌ بشكل شديد التماسك والوضوح، فهو يحدد أهدافًا استراتيجية لكل وزارةٍ أو هيئة ممن هي داخلةٌ في نطاقه ويربطها بالرؤية، ويضع مؤشراتٍ للأداء والقياس، بتفاصيل واضحةٍ ويقارن إقليميًا ودوليًا، مما يمنح حتى غير المتخصص قدرةً على المقارنة بالحكومات والدول الأخرى في الإقليم وحول العالم.

تسمية البرنامج بالتحول الوطني هي تسمية أمينةٌ بالفعل، وهو يمثل تحديًا كبيرًا أمام الرؤية في نقل البيروقراطية الحكومية دفعةً واحدةً وفي خمس سنواتٍ فقط نحو أداء متميزٍ وفاعلٍ، ومن يعرف قوة ورسوخ البيروقراطية يعلم حجم ضخامة التحدي، وهو قد اتضح من خلال البرنامج نفسه، فثمة بعض النواقص في تعبئة الأرقام أو النسب أو تحديد المستهدف بدقةٍ، فيكتب في بعض الخانات لكثير من الوزارات والهيئات «جارٍ احتسابه» أو «تحت الدراسة».

وهذا مؤشرٌ مهم في صالح البرنامج ومصداقيته، فهو مع كل الحرص على الدقة معني بعدم الاستعجال في الحصول على المعلومة حتى تكتمل، وعدم جعل ذلك معيقًا لإعلان البرنامج، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فهو مؤشرٌ مهمٌ على مدى الشفافية التي تطبع هذا البرنامج بحكم طبيعته وبنيته، بحيث يصبح في متناول الجميع أن يعرف عن كل جهةٍ حكوميةٍ داخلة في البرنامج ما هي طموحاتها ومشاريعها ومستهدفاتها وطبيعة دورها في تحقيق رؤية 2030.

مع اكتمال الدقة والشفافية، فهذا يفتح الباب واسعًا للنقد البنّاء، ولمنافسة الجهات المسؤولية من كل متخصص في علمٍ أو صاحب خبرةٍ في مؤسسةٍ أو مراقبٍ أو باحثٍ، ليقارن ويتحقق وينتقد، فكل الأرقام متاحةٌ وكل التفاصيل معلنةٌ، والرهان يكون بين الحسن والأحسن، بين الفاضل والأفضل من الخيارات والتوجهات.

يصطبغ البرنامج بطبيعة التوازن التي تم بناؤه عليها، فالسعي للتوازن بين الطموح والممكن لا يقل عن التوازن بين الاستعجال والحكمة، ويبدو ذلك في كثيرٍ من الغايات والأهداف المرسومة والمعلنة في برنامج التحول الوطني الذي تم نشره للجميع بكل وسائل النشر.

إن التحديات الكبيرة تخلق فرصًا بحجمها حين تحسن إدارتها، وهو جزء مهم من طبيعة البرنامج نفسه، ومن يقرأ بالتفصيل الأهداف الاستراتيجية لكل جهةٍ حكوميةٍ، ومؤشرات الأداء وتفاصيلها، والمبادرات الكبرى والمتعددة، يعلم ضخامة الطموح وحجم التحديات التي تواجهه.

ولكن، هنا سؤال، هل يعني ذلك اكتمال العمل؟ بالتأكيد لا، فالمتخصصون في كل مجالٍ لديهم دائمًا تفكيرٌ آخر، وترتيب مختلفٌ للأولويات، وزوايا نظرٍ مستقلةٍ، وبرنامج التحول يفتح أمام الجميع مسارين مهمين؛ الأول: الاستدراك حين وجود الشعور بقصورٍ أو خللٍ ما، أو اقتراح الإضافة والزيادة، ضمن رؤى متماسكة وشمولية تناسب الرؤية وتتفق مع البرنامج. الثاني: منح القدرة بقوة المعلومات ووضوح الأهداف المعلنة بالأرقام على النقد والمحاسبة والمتابعة لكل مختصٍ أو عارفٍ أو خبيرٍ.

وأكثر من هذا أن برنامج التحول يمنح المواطنين جميعًا بشتى اهتماماتهم القدرة على معرفة مستقبل الدولة والحكومة على مدى خمسة عشر عامًا بالنسبة للرؤية أو خمسة أعوام بالنسبة للبرنامج، فالموظف في جهةٍ حكومية ما، يعرف جيدًا ما هو مستقبل وزارته أو مؤسسته وإلى أين تتجه وكيف سيتم تطويرها، والمواطن المهتم ببعض الخدمات العامة التي تقدمها الجهات الحكومية سيعرف كيف سيتم تطويرها وما القصور أو الأخطاء التي يراها أو يعاني منها، ويمكنه إعلانها والتنبيه عليها.

هناك توجهٌ عامٌ نحو الخصخصة والحدّ من تضخم القطاع الحكومي، وتطوير بنيةٍ جديدةٍ للعلاقات بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، يتخفف فيها القطاع الحكومي من الأعباء غير المفيدة، ويستفيد منها القطاع الخاص بتقديم الخدمات على أعلى المستويات، وهي متوزعةٌ في كثيرٍ مما جاء في برنامج التحول.

إن أي انتقالٍ سريعٍ وطموحٍ للدول والحكومات محفوفٌ بكثير من المخاطر، ويجب احتساب كثيرٍ من الأمور التي قد تحدث جرّاء أي ردود فعلٍ غير واعيةٍ أو يمكن استغلالها من الأعداء خارجيًا وداخليًا، وقد سبقت الإشارة لبعضها في هذه المساحة في مقالاتٍ سابقةٍ، ومن أهمها ما يمكن تسميته بالإرجاف، أو محاولة استغلال كل توجهٍ صحيحٍ يكون فيه شيء من القوة في التغيير لتهييج الناس ضد دولتهم وحكومتهم ووطنهم، وهو أمرٌ متوقعٌ وينبغي أن يوضع في مكانه ويتم التحضير له.

إن الدول القادرة على التطوير الدائم واستيعاب حركة التاريخ التي تتمتع مع الاستقرار بالمرونة التي تضمن الاستمرارية، والتي لديها من مخزون الشرعية وقوة الأمن والأمان ما يمنحها القدرة على التغيير، هي الدول التي تبقى راسخة في المستقبل ومستحوذةً على عناصر القوة.

في تاريخ الأمم والشعوب، والدول والممالك، وعلى طول التاريخ وعرض الجغرافيا، كان ثمة ممانعة دائمةٌ لأي تطوير، ورفضٌ لأي تغيير، وهي ممانعةٌ ورفضٌ تعبر عن نفسها بطرقٍ شتى ووسائل مختلفةٍ، فالموروث البشري لدى الناس عزيز لدى أتباعه، ويحسبونه دائمًا هو الأفضل، ولا يريدون أن يمس بأي حالٍ، بمعنى أن ثمة منظوماتٌ كبرى في الثقافة والمجتمع كما في البيروقراطية والقيم البشرية، ستسعى جهدها لإحباط كل تطويرٍ إما لعدم الفهم أو لتحول المصالح أو لإصرار على المألوف لمجرد أنه مألوفٌ.

ولنأخذ على هذا مثالاً، فقيم العمل، الموجودة في كثيرٍ من الحضارات الناجحة والرائدة اليوم لا تجد لها مكانًا يناسبها في واقعنا المعيش، وهي لو عدنا إلى التراث الديني لوجدنا لها كثيرًا من الدلائل التي تدعمها ومن ذلك كتاب «تخريج الدلالات السمعية» للخزاعي وغيره كثيرٌ جدًا.

أخيرًا، حين تستقبل النجاح وتسعى له جهده فإنه يمنحك نفسه، وحين تسعى للتخطيط والإحكام فإن الظفر حليفك، وحين تضيف لذلك التوازن المقيم والتطوير المستمر والتغيير الدائم فإن ذلك هو مفتاح المستقبل.

&

&

&