أمير طاهري
عندما أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره بالتدخل العسكري في سوريا سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلن أنه يرمي من وراء ذلك إلى تحقيق نصر سريع، والواضح أنه سعى كذلك لتشتيت الأنظار بعيدًا عن مشكلاته الأخرى، خاصة مغامراته داخل جورجيا وأوكرانيا. وبعد ثمانية أشهر، وبعد أن عجز عن تحقيق أي شيء تقريبًا فيما يخص توازن القوى داخل هذه الحرب الغريبة، يبحث بوتين الآن عن سبيل للخروج من الحرب. وخلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، روّجت موسكو لأنباء تشير إلى وصولها إلى اتفاق لم يتم تحديده مع إدارة أوباما لإيجاد سبيل لإنهاء الحرب. في الوقت ذاته، توجه وزير الدفاع الرسمي سيرغي شويغو إلى دمشق، والمعتقد أن الزيارة ترمي لمساعدة الرئيس بشار الأسد على ابتلاع حبة دواء مريرة لم تتضح معالمها تمامًا بعد.
ونظرًا لما يعرف عنه من طباع انتهازية، فإن هذا الإجراء يتوافق تمامًا مع شخصية بوتين، فعندما لا تفلح سياسة ما يبدي استعداده على الفور لتعديلها أو التخلي عنها. منذ عام مضى، ربما كان يحلم بتحقيق نصر عسكري حاسم في سوريا. أما اليوم، فأصبح مدركًا تمامًا أن هذا لن يحدث.
الآن، ماذا عن المشارك الآخر في لعبة القوة المأساوية تلك: تنظيم داعش؟ نظرًا لأن النخبة الخمينية أكثر اهتمامًا بالحفاظ على ماء الوجه عن أي شيء آخر تقريبًا، فإن طهران ليست على استعداد أبدًا للتخلي عن سياسة فاشلة حتى اللحظة الأخيرة. والملاحظ أن آية الله الراحل الخميني مضى في استراتيجيته الفاشلة في الحرب ضد العراق لثماني سنوات حتى أجبر، باستخدام كلماته ذاته، على «تجرع كأس السم» وقبول اتفاق وقف إطلاق نار لم يكن ليقبله منذ سبع سنوات سابقة.
أما بالنسبة لخليفته آية الله علي خامنئي، فإن العالم ما يزال متحيرًا حول مدى اتصاله بالواقع. يعتقد البعض في طهران أنه مع تقدمه في العمر أصبح أكثر راديكالية، بل وربما متهورًا في مساعيه الحثيثة وراء سرابه الآيديولوجي. تبعًا لهذا التحليل، فإن اهتمامه اليوم منصب على دخول التاريخ كزعيم ثوري. أما هدفه فهو تجنب «كأس السم» التي تحدث عنها الخميني. لذا، فإنه ما يزال يتحدث عن «النصر الكاسح» في سوريا، وما يزال يكرر أنه سيبقي على الرئيس الأسد في السلطة على الأقل حتى نهاية فترة رئاسته البالغة سبع سنوات.
من جانبي، لا أتفق مع تحليل خامنئي لهذه القضية. والمؤكد أن قائدًا تكونت لديه بمرور الأيام صورة متضخمة لذاته بداخله، ويتغنى كل من يقابلونه يوميًا، بما في ذلك مبعوثون أجانب، بعبقريته وبكونه هبة للبشرية، من الحتمي أن يعاين تضخمًا هائلاً في الأنا، وينتهي به الحال أسيرًا لأوهامه.
ومع هذا، لا أعتقد أن خامنئي مقامر طائش بالدرجة التي كان عليها الخميني، فهو على استعداد لدفع السكين لأبعد مدى ممكن، ما دامت لم تجابه عقبة خطيرة. وهناك الكثير من المواقف السابقة التي تدعم فكرة كونه أكثر حذرًا عن الخميني.
عام 1980، عندما احتجز دبلوماسيون أميركيون كأسرى داخل السفارة الأميركية بطهران، زار خامنئي مجمع السفارة، وحاول التفاوض لشراء أسلحة أميركية بمجرد انتهاء الأزمة. وكانت الفكرة برمتها أن يبعث بإشارة إلى الأميركيين توحي أنه الرجل الذي يمكن لهم التعامل معه.
7
في تسعينات القرن الماضي، عندما قتلت جماعة «طالبان»، التي كانت لها السيطرة على أفغانستان آنذاك، ستة دبلوماسيين إيرانيين وعشرات الشيعة الأفغان العاملين لدى إيران، اقترح القادة العسكريون في طهران «تلقين طالبان درسًا»، تبعًا لما ذكره الجنرال محسن رضائي.
ومن بين الأفكار المطروحة قصف مقار إقامة قادة «طالبان»، بما في ذلك الملا عمر، وقتل أكبر عدد ممكن منهم. إلا أن خامنئي رفض الخطة. وبدلاً من ذلك، فتح حوارًا مع «طالبان» مرّ ببعض النجاحات والإخفاقات، وما يزال مستمرًا حتى يومنا هذا. وعندما تفاوض وزير الخارجية الفرنسي، إرف دي شاريت، عام 1996، مع نظيره الإيراني علي أكبر ولاياتي للتوصل إلى اتفاق يعاون طهران على الالتفاف على بعض العقوبات مقابل الإبقاء على «حزب الله» تحت السيطرة، أقر خامنئي الاتفاق. وبالفعل، صدرت أوامر لجماعة «حزب الله» اللبنانية بالامتناع عن أي عمل ضد إسرائيل لسنوات عدة.
ومن بين الأمثلة الأحدث على موقف خامنئي فيما يخص ما يطلق عليه الاتفاق النووي، الذي أقر تحت رعاية إدارة أوباما، فلا بد أن «المرشد الأعلى» كان مدركًا أن الأمر برمته خدعة، ومع هذا عارضه في العلن، مع السماح في الوقت ذاته للعاملين تحت إمرته بالمعاونة في طبخ الوصفة السحرية خلف الكواليس.
وعلى مدار الشهور الأخيرة، كان يؤكد أمام كل من يتّصل به أن العقوبات لم يكن لها تأثير على إيران، وأن الاتفاق النووي لم يلزم إيران بشيء. ومع هذا، فإنه أيضًا يؤكد أنه حال «انتهاك» الرئيس الأميركي القادم للاتفاق غير الموجود، فإن إيران «ستحرق» الاتفاق. ومع موافقته على مذلة إنفاق طهران لأموالها بعد الحصول على إذن من البيت الأبيض، أبدى خامنئي درجة من المرونة لم يجرؤ سياسي إيراني على مجرد تخيلها في التاريخ المعاصر.
الآن، دعونا نعد إلى سوريا. والتساؤل الآن، هل سيستمر خامنئي في الحديث القوي مع تواريه خلف الكواليس؟ في الواقع، الإجابة عن هذا التساؤل ليست بالسهلة، خاصة أنه ليس من اليسير إخفاء حدوث تغير في السياسة تجاه سوريا، فأنت إما أن توافق على الإلقاء بالأسد للذئب، أو تستمر في المراهنة عليه مع العلم بأنه حصان خاسر.
علاوة على هذا، فإن تنظيم داعش ليس الفاعل الرئيسي داخل سوريا، وإنما تشارك قوى أخرى بعمق، أبرزها روسيا والولايات المتحدة وتركيا، ناهيك عن الدول العربية. كما أن قاعدة تأييد الأسد غير حريصة على تلقي أوامر من طهران، مثلما الحال مع حسن نصر الله وأتباعه بلبنان.
وربما يكون الأهم من ذلك أنه على الصعيد الداخلي، تضيق يومًا بعد آخر دائرة الخيارات المتاحة أمام خامنئي فيما يخص سوريا، ذلك أن الرأي العام الإيراني لا يبدي تعاطفًا تجاه الأسد، وتواجه طهران صعوبة في إقناع مزيد من «المتطوعين» بالتوجه لسوريا.
ومن المحتمل أن يكون عدد من المتحمسين قد خدعوا خامنئي بخصوص الوضع في سوريا، وربما يكون منهم قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، البارع على نحو خاص في الترويج لنفسه، وذلك عبر وعوده المتكررة بتحقيق «نصر وشيك» في سوريا. وبعد خمس سنوات لا نعاين سوى كارثة محققة، مع تفاقم خسائر طهران واضطرارها لترك جثث ضباطها مبعثرة بشوارع خان طومان.ورغم عدم الإعلان عن ذلك رسميًا، فإن قرار خامنئي بإبعاد سليماني عن الملف السوري يعد خطوة جيدة. وبدلاً منه، طلب خامنئي من الجنرال رضائي، قائد الحرس الثوري الإسلامي المتقاعد طرح «أفكار جديدة» بخصوص الكارثة القائمة في سوريا. ورغم أن رضائي ليس بالعبقرية العسكرية الفذة، لكنه يبقى شخصًا ناضجًا مقارنة بسليماني صاحب النزعات الطفولية.
التعليقات