&سمير عطا الله


عندما أكتب عن ذكريات باريس أبدأ ذلك دائمًا بالقول إنني وصلتها وأنا في العشرين من العمر، ويوم كانت هي ترتعد خوفًا من انفجار حرب أهلية بسبب استقلال الجزائر. كلاهما حدثان: الأول شخصي، أن تكون في العشرين، وهو أمر يحدث لمرة واحدة في العمر. والثاني تاريخي، وهو أن تكون في بلد ما، فيما هو في قلب لحظة حاسمة: إما جنون جنرالات «الجزائر فرنسية»، أو تعقّل الجنرال الكبير شارل ديغول.
كانت سماء باريس رمادية، كما في الطقس الداكن، وليس كما في الأغنية الجميلة. وكانت مليئة بباصات الدرك الزرقاء ورجال الشرطة بالمعطف - المشلح، الذي ألغي بعدها، رغم أناقته. وكانت تخشى أن يهبط عليها «المظليون» القادمون من ثكنات الجزائر، في أي دقيقة. تلك هي الكارثة التي لم تقع.

مضيت في شأني الصغير أبحث لي عن مكان في المدينة التي لم أكنّ قد حلمت بسواها حتى ذلك العمر. ففي تلك المرحلة، كانت بيروت هي الجهة الشرقية من باريس: صحفها الأولى بالفرنسية، وأفلامها بالفرنسية، وأغانيها عن مراكب السين، وكتبها المترجمة منقولة عن سارتر وكامو، ولباسها فرنسي وعطورها وحكايات الفرسان الثلاثة.

لم يكن في باريس آنذاك أي مكان محتمل لصحافي عربي سوى الإذاعة العربية التابعة للدولة. والصحافي كان بادئًا ومجهولاً وبلا معارف. ومع ذلك استقبلني المسيو جاك لانو، الذي تبين أنه فرنسي من مواليد سوريا. وكان لانو يجيد العربية بخنّة فرنسية أو أعجمية. أصغى إليَّ باهتمام وأنا أحدثه عن رغبتي في العمل. ولما انتهيت، قال في شيء من السخرية: «آه، إذن أنت فلان الذي يحبنا كثيرًا»؟ تطلعتُ نحو باب الخروج في سرعة - ومضيت. وبعد سنوات عدت فالتقيت المسيو لانو في «إذاعة مونت كارلو»، وفي بيروت، وقد نسي كل منا زيارة طلب العمل. ولا أدري إن كان ديغوليًا أو أصبح، أو تغير بعد ذلك. أما أنا فما أزال ديغوليًا حتى اليوم، لا أنسى له أنه عجل في استقلال الجزائر، وأسرع في منح لبنان الاستقلال. لقد استقل لبنان عن فرنسا خلال أسابيع قليلة، تجنبًا للفوضى والدماء، لكنه منذ 1943، لم يصبح دولة مستقلة حتى اليوم. ولا شبه مستقلة.

في أي حال كانت تلك بداية علاقة أدبية فكرية إنسانية ثقافية مع باريس. ومثل معظم الذين حاولوا الهجرة إليها من أهل الكتابة أو الفن أو الفكر، كانت بدايتها «رومانسية». لكن باريس كانت لا تزال مدينة الغرباء. جاء إليها الأميركيون بحثًا عن الحرية والآداب. وجاء إليها الآسيويون لكي يتعلموا محاربة الاستعمار الفرنسي. ومن أشهرهم شو آن لاي، في رأيي أهم زعماء الصين، ودنغ كسياو بنغ، الذي حكم الصين بعد ماو، وهوشي منه، محرر الفيتنام الذي عمل طباخًا في فندق «الريتز»، أهم الفنادق «الرأسمالية». دنغ عمل دهانًا. وفي هذه المدينة جاع اثنان من أشهر أدباء العالم: دوستويفسكي وغابرييل غارسيا ماركيز. وكلاهما لم يملك أجرة البريد لإرسال روايته إلى الناشر.
إلى اللقاء..
&&

&