&أحمد المرشد&

اليوم السبت يكون قد مر نحو ثلاثة أسابيع على الاتفاق المبدئي حول سوريا الذي وقعه وزيرا خارجية روسيا سيرجي لافروف والولايات المتحدة جون كيري، وهو الاتفاق الذي ذكرت الإدارة الأمريكية أنها ستكشف عن تفاصيله خلال أيام من توقيعه في موسكو، ولكن مرت هذه الأيام ولم تكشف مضمونه. ويبدو أن التراجع الأمريكي له أسباب عديدة من أهمها تغير الوضع على الأرض في حلب وشبه عودة سيطرة قوات بشار الأسد على المدينة أو على الأقل معظمها بمساعدة ودعم عسكري مباشر من روسيا، ناهيك عن ضعف موقف واشنطن عموما خاصة وأن الرئيس باراك أوباما يلملم حاجياته في طريقه الى خارج البيت الأبيض.

ومع اضطراب الموقف الأمريكي في التعامل مع قضايا المنطقة وعلى رأسها الأزمتين السورية والعراقية، يظهر في الأفق فشل أمريكي جديد في ما يتعلق بسوريا خاصة مستقبل الرئيس بشار الأسد، ومن الواضح أن واشنطن باتت على قناعة بقدرة الروس أكثر من الأمريكيين في إدارة هذا الملف وتحديد خطوط العمل العريضة. فالإجماع شبه معدوم داخل الإدارة الأمريكية حول فائدة التعاون العسكري مع موسكو في سوريا أبعد مما هو قائم حاليًا. وكما أسلفت، فالتطورات الأخيرة في حلب، حيث أحكم النظام وحلفاؤه محاصرتها بدعم مباشر من روسيا وضع الأمريكيين في موقف ضعيف. هذا مع الوضع في الاعتبار ما يمكن أن نسميه بـ«المبادرة الروسية الجديدة» التي أمرتها موسكو مع النظام السوري بشأن حلب، وتقوم على فتح ثلاثة ممرات إنسانية خاصة بالمدنيين، وممر رابع للمقاتلين الذين يرغبون في الخروج منها. هذه المبادرة «الغريبة» كما يراها الغرب وجون كيري، أثارت الكثير من اللغط، وتضاربا في القراءة، حيث وصفها امريكيون بأنها «محيرة» فيما حدد كيري وصفه لها بأنها بـ«بمثابة خدعة»، لماذا؟ لأنها قد تطيح بإمكانيات التعاون بين واشنطن وموسكو.

ورغم التضارب في المصالح بين موسكو وواشنطن من وراء العمل في سوريا، إلا أن كيري يوضح في أكثر من مقابلة أن الإدارة الأمريكية أصبحت على قناعة تامة بأن حصول أي تقدم في الملف السوري غير ممكن بدون العمل والتعاون مع موسكو. ولذا ما نرى الحلول السورية التي تعلن من حين لآخر تتم بين كيري ولافروف اللذين يتفقان ربما سياسيًا ويختلفان عسكريًا، حتي أن هناك ثمة اختلاف في السياسة ويتعلق بمصير بشار الأسد، يبقي أن يغادر المسرح، وإن جلس لفترة كم تكون مدتها، وما مدى موافقة بقية المعارضة السورية على ذلك في ظل مطلب رئيسي لهم وهو ضرورة أن يغادر بشار الأسد المشهد السياسي وإلغاء أي دور له في أي اتفاق مرتقب، فمستقبل سوريا لن يكون في وجوده.

ورغم التوافق الروسي - الأمريكي ظاهريا في المشهد السوري، إلا أن الأمريكيين باتوا على يقين بأن الروس يضعونهم أمام الوضع الصعب أو أمام الأمر الواقع، وهو ما يتجدد باستمرار حتى أن الأمريكيين لم يستطيعوا في الوقت الراهن التنبؤ بما هو آت من روسيا من مواقف، في ظل وضع صعب آخر وهو أن موسكو هي التي تملك زمام الأمور حاليًا في سوريا، دبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريا. ونذكر على سبيل المثال ما قدمته روسيا من دعم عسكري ضخم لنظام بشار الأسد مكنه من فرض الحصار على مدينة حلب، ثم إطلاق المبادرة التي أشرنا إليها في السابق والخاصة بالممرات التي تتيح للسكان، نظريا، الخروج الآمن، وفتح الباب أمام المقاتلين أيضا للخروج وتسليم سلاحهم، لكن من غير توفير أي ضمانات لما قد ينتظرهم عقب ذلك.

وعمليا على الأرض، فإن واشنطن أعربت عن غضبها حيال التنصل الروسي من اتفاقات سابقة مع الجانب الأمريكي، تتعلق معظمها بضرورة التوافق على الضربات الجوية ومحيطها وأهدافها، ولكن سرعان ما تتراجع موسكو عن اتفاقاتها مما يثير حنق واشنطن، وهنا يتساءل دبلوماسيون أمريكيون مرافقون لجون كيري في أغلبية جولاته، عن مدى جدية موسكو في تفاهماتها مع واشنطن، وعما إذا كانت خطتها تمكين النظام من كسب مزيد من الأراضي، خصوصًا حلب التي كانت تعد الرئة الاقتصادية لسوريا والمدينة الثانية فيها. ومبعث الغضب الأمريكي هو أن استعادة حلب بالكامل يمثل تحولا جذريا في مسار الحرب، مما سينعكس على مجمل الأوضاع العسكرية والسياسية في سوريا.. وأولى ضحايا هذا التغير الميداني ستكون بلا شك وساطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لماذا؟.. لأنه في هذه الحالة سيخرج النظام السوري بادعاء جديد مفاده أن الحرب على وشك الانتهاء، ولا فائدة إذن من المحادثات في جنيف، خصوصا إذا نجحت المصالحات المحلية التي يريدها النظام التي تساندها موسكو.

يضاف الى كل ما سبق، أن الوقت يمثل تناقضا أيضا في المواقف بين موسكو وواشنطن، ففي العاصمة الروسية، لا يرى دبلوماسيوها أنهم في عجلة من أمرهم بعكس الدبلوماسيين الأمريكيين وما يقف معهم من العواصم الغربية، فالوقت في صالح موسكو، وكلما نجحت في تعزيز مواقعها في سوريا أضافت لنفسها المزيد من الأوراق التي يمكن أن تساوم بها للحصول على مقابل سياسي أو اقتصادي في أماكن أخرى مثل أوكرانيا في نزاعها مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وإذا كانت المرحلة الراهنة بمثابة مرحلة مثالية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للحصول على أكبر قدر من التنازلات من الإدارة الأمريكية التي تستعد للرحيل، فإن الوقت الراهن لباراك أوباما هو الأصعب لأنه لن يحقق أي انجازات في الفترة المتبقية له بالبيت الأبيض، وبالتالي تكون موسكو في موقف الأقوى في إدارة الأزمة السورية.

ومما يزيد الموقف الأمريكي غموضًا أو تراجعًا، ما قاله جون برينان٬ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)٬ عن «عدم تفاؤله» بمستقبل سوريا٬ حيث حمل كثيرا من الالتباس والتأويلات٬ وطرح أيضا كثيرا من علامات الاستفهام حول أبعاده٬ وعما إذا كان هذا الموقف يمهد لإخراج تسوية أمريكية - روسية٬ على نحو مخالف لرغبة الشعب السوري وكل دول المنطقة. وننقل هنا ما قاله بالحرف: «لا أعرف ما إذا كان يمكن أو لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى.. سوريا ربما لن تبقى على وضعها الذي كانت عليه قبل خمس سنوات من اندلاع الأزمة». فهذا الموقف الذي كشفه واحد من أكبر المسئولين الأمريكيين وفي صدارتهم وربما يكون أهم من جون كيري نفسه لانه يتحدث عن الأرض والمعلومات وتحليلها، أصاب المعارضة السورية بالغضب الشديد، وجعلهم يعيدون مواقفهم من التعاون مع واشنطن وابلاغها بالمواقف على الأرض أولا بأول، كما أن تصريحات برينان أصابتهم بالخوف الشديد من الحل الذي ينبئهم بتقسيم بلادهم وعما إذا كان هذا هو موقف واشنطن غير المعلن.