&عبدالله جمعة الحاج

على صعيد دور العلمانية في المجتمع التركي يمكن القول بأنه في بعض فترات «الغلو العلماني» ظهرت طروحات تُحمل الموروث الثقافي أسباب تخلف المجتمع مقارنة بالغرب خاصة في العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، بمعنى أن العادات والتقاليد والممارسات السائدة أعاقت حركة التطور، وبأن الكثير من جوانبها لا تتماشى مع الظروف الحديث، لقد تم تبني مثل تلك الطروحات بصورة فعلية، وامتدت إلى حدها الأقصى ليس في قضايا السياسة فقط، ولكن على صعيد الممارسات الاجتماعية والثقافية ذاتها، خاصة في المدن الكبرى.

والغريب أن بعض من تلك الطروحات ليست بالحديثة أو مرتبطة بالإصلاحات الجمهورية فقط، ولكنها قديمة ورد البعض منها خلال الفترة التي عرفت بفترة «التنظيمات العثمانية» التي امتدت ما بين عام 1839 وعام 1876، ولبعض الوقت في حقبة ما بعد مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية.

وبسبب سعي أصحاب الأحزاب الدينية «لتديين» السياسة والمجتمع، أصبحت العلمانية إحدى القضايا المحورية التي ينقسم حولها المجتمع فيما يتعلق بدورها ووظائفها بالإضافة إلى سياقها التاريخي ومرجعياتها ومدلولاتها والحيز الذي يمكن أن تجده لنفسها في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد، وفي هذا السياق يتم التنظير للمجتمع العلماني على أنه ذو وجوه متعددة هي: السياسي، القائم على الديمقراطية الغربية التعددية، والفكري، القائم على فصل الدين عن الدولة، والاجتماعي، القائم على المجتمع المدني والدور الفاعل للمؤسسات المدنية.

وفصيل آخر من المثقفين الأتراك ينظر إلى العلمانية على أنها سياق فكري قابل للتطبيق يحكم السلوك الاجتماعي بمؤسساته المختلفة على اعتبار أن أصلها اللغوي ينحدر من كلمة «عِلم»، فهي بذلك مقولة علمية يمكن لها أن تكون متحكمة في الإدراك الاجتماعي مبعدة بذلك تأثيرات الممارسات الاجتماعية القديمة والموروث الثقافي عن الهيمنة على مسارات المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، ونتيجة لهذه التفسيرات خرج فريق ثالث، يرفض العلمانية كمقولة صالحة للتطبيق على أساس أنها تلغي دور الدين في شؤون الدولة والسياسة، ووجهوا إليها نقداً لاذعاً على أساس أن من ينادون بها يستمدونها كاملة من الفكر الغربي الحديث دون أن يضعوا اعتباراً لخصوصية المجتمع التركي المسلم، فالأوروبيون من خلال العلمانية ألغوا سيطرة الكنيسة على الدولة والسياسة، في حين أن تجربة تركيا الإسلامية الموغلة في تاريخ البلاد وثقافتها تقوم على نقيض ذلك جملة وتفصيلاً من منطلق أن الدولة وسياساتها تهيمن على المؤسسة الدينية، ومن هذا المنطلق الفكري يسمى هؤلاء أنفسهم «بالعثمانيين الجدد».

وحقيقة أنه في تركيا العثمانية تعمق هذا النمط من العلاقة بين الدين والسياسة، من خلال تخصيص منصب سياسي ديني هو منصب (شيخ الإسلام)، وذلك للسيطرة على المؤسسة الدينية وتسييرها في كافة الأمور المرتبطة بالفتوى والقضاء وخطبة الجمعة وكافة الأمور الدينية المرتبطة بالمجتمع، وعلاقات أفراده بالسلطة السياسية وببعضهم بعضاً، وبالتالي فإن منصب (شيخ الإسلام) المعين من قبل السلطات وفقاً للحقب التاريخية المتوالية سهل لهم إخضاع الديني للسياسي، وإخضاع المجتمع للدولة، لذلك فإن المثقفين الأتراك المنادين بالعلمانية والمؤيدين لها، وربما بدعم وإسناد من المؤسسة العسكرية التي لايزال العديد من قادتها موالين لفكر أتاتورك العلماني يقولون بأن الأوضاع التركية الخاصة تفرض على تركيا تبني العلمانية، لأنها هي المدخل الصحيح والمناسب لسيرها نحو الحداثة وتحرير المجتمع من سيطرة الدولة وسياسييها المحترفين.

إن الجدل بين أصحاب الحكومة الدينية وأصحاب العلمانية سيستمر حول أي منهما هو الأصلح لتولي السلطة وسدة الحكم، وربما لا ينتهي أبداً، لكن المهم هو إدراك السياسيين الأتراك لمصالح بلادهم العليا، وعدم جر البلاد إلى اللعبة الصفرية التي ستُدخِلها في مسارات الحرب الأهلية، وما الاعتقالات الأخيرة والتفجيرات والمظاهرات والفوضى، وما يدور في جوار تركيا الجغرافي سوى المقدمة والدليل على أن ما هو قادم أسوأ بكثير من لعبة الانقلاب الأخيرة الغامضة.