خيرالله خيرالله

من أطرف ما يشهده لبنان في هذه الايّام، ذلك الاخذ والرد بين شبان يسمّون «عونيين» نسبة الى النائب المسيحي ميشال عون، قائد الجيش السابق، الذي اصبح في الوقت الراهن حليفاً لـ «حزب الله»، حتّى لا نقول شيئا آخر. 

كان عون الذي ما زال للأسف الشديد، يمثّل قسما من المسيحيين في لبنان، في الماضي القريب من دعاة الحرية والسيادة والاستقلال والعدو اللدود للنظام السوري، على الرغم من انّه تبيّن مع تطور الاحداث انّه كان افضل الأدوات التي استخدمها هذا النظام لفرض وصايته المباشرة على لبنان، خصوصا في المرحلة الممتدة من خريف العام 1990، الى ربيع العام 2005، مباشرة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.

تسبب هذا الاغتيال بخروج الجيش السوري من لبنان ومعه الاجهزة الأمنية في 26 ابريل من تلك السنة... كما أدت الى عودة عون الى البلد. حصل كلّ ذلك في وقت استطاعت فيه ايران ملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب السوري عبر ميليشيا مذهبية ليست سوى لواء في «الحرس» الثوري، اسمها «حزب الله».

بعيداً عن الظروف التي رافقت نفي عون الى فرنسا بعد فراره الى بيت السفير الفرنسي من القصر الرئاسي في بعبدا في أكتوبر 1990، عندما سمح الاميركيون لسلاح الجو السوري بقصف القصر الرئاسي في لبنان اثر القرار الذي اتخذه الرئيس الراحل حافظ الأسد بالانضمام الى التحالف الدولي والعربي الذي سيخوض حرب تحرير الكويت، هناك ما يثير الاهتمام في التجاذبات السائدة بين «العونيين». تعكس هذه التجاذبات حال الضياع التي يعاني منها قسم لا بأس به من المسيحيين اللبنانيين.

انّها بالفعل مأساة، ان يكون في لبنان مؤيدون لسياسي امضى حياته في ارتكاب الأخطاء التي دفع المسيحيون ثمنها غالياً وذلك عندما تمترس في قصر بعبدا رافضا اخلاءه بسبب اعتراضه على اتفاق الطائف ورغبته في ان يكون رئيسا للجمهورية بايّ ثمن كان. خاض عون كلّ الحروب التي كان عليه تفاديها عندما كان رئيسا لحكومة موقتة لا مهمّة لها سوى تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميّل الذي غادر قصر بعبدا في اليوم الذي انتهت فيه ولايته بموجب الدستور.

يصعب المرور مرور الكرام على ما اقترفه عون في حقّ لبنان واللبنانيين، ان باعتدائه على الاحياء الإسلامية في بيروت في العامين 1988 و1989 او بدخوله في حرب مع «القوات اللبنانية» بعد تلقيه دبابات من صدّام حسين وصلت الى لبنان بعد نقلها الى تركيا برّاً ومنها بحراً الى جونيه... بتغاض إسرائيلي مفضوح ليس ما يدعو الآن الى كشف تفاصيله.

كيف لقائد الجيش اللبناني ورئيس للحكومة الموقتة، التي لم تضمّ أي مسلم، منع الرئيس المنتخب رينيه معوض من دخول قصر بعبدا ليكون هدفا سهلاً للمخابرات السورية التي تولت تصفيته كون الرجل أراد تطبيق اتفاق الطائف بعيدا عن الوصاية السورية المباشرة وبغطاء عربي ودولي؟

كيف يمكن لرئيس حكومة موقتة الدخول في حرب مع طرف مسيحي آخر وتهجير هذا العدد الكبير من المسيحيين من لبنان؟

كيف يمكن لشخص مثل عون البقاء في قصر بعبدا والاستعانة بعملاء للنظام السوري من اجل الحصول على ذخيرة يقاتل بها «القوات اللبنانية» ثم ارسال أنصاره الى بكركي لاهانة رجل عظيم مثل البطريرك صفير الذي يمتلك ما يكفي من الحكمة وبعد النظر ما جعله يؤيد اتفاق الطائف ويستوعب أهميته التاريخية؟

لا تعود مأساة المسيحيين في لبنان إلى وقوف كثيرين منهم الى جانب عون واعتقادهم انّ في استطاعته «إعادة حقوقهم» التي اخذها اهل السنّة. نعم، من اهل السنّة الذين رفعوا أخيراً شعار «لبنان اوّلاً». في أساس المأساة العجز عن فهم المعادلة الإقليمية، بدءا بتوقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 وصولا الى الوضع الراهن المتمثل في غياب رئيس الجمهورية.

هذا العجز عن فهم المعادلة الإقليمية جعل المسيحيين، باستثناء ريمون اده، يوافقون على اتفاق القاهرة. هذا العجز قادهم الى انتخاب سليمان فرنجيه رئيساً للجمهورية في العام 1970، في حين كان لديهم خيار افضل بكثير هو الياس سركيس. عندما اصبح سركيس رئيسا في 1976، كان أوان الرجل فات. لم يعد لديه مؤسسات امنية تستطيع حماية مؤسسات الدولة اللبنانية في ظل الوجود الفلسطيني المسلّح والتدخلات السورية في شؤون البلد، بأدّق تفاصيل هذه الشؤون.

لا تكمن مأساة المسيحيين في لبنان في العجز الدائم عن فهم المعادلة الإقليمية والدولية فحسب، بل في الاستمرار في ارتكاب الخطأ ذاته ورفض التعلم من تجارب الماضي القريب أيضا. لا مشكلة في وجود تجاذبات داخل «التيّار». المشكلة بكلّ بساطة في وجود مثل هذا «التيّار» الذي يعبّر عن قدرة كبيرة على الاستعانة بالغرائز البدائية لتغطية عملية السقوط لطائفة كان في استطاعتها لعب دور أساسي في حماية لبنان بالمشاركة مع الطوائف الأخرى دائما وابدا.

لم يفهم المسيحي العادي خطورة الدخول في لعبة الميليشيات والحروب مع الفلسطينيين التي كان النظام العلوي في سورية يشجّع عليها. هذا لا يعني من دون ادنى شك التقليل من مسؤولية الفلسطينيين عن جانب كبير من الدمار الذي لحق بلبنان ودوره ومؤسساته. ولكن في نهاية المطاف، لم يستطع عون ان يدرك في أي وقت ماذا على المحك. لا يدرك حالياً ان حلفه مع «حزب الله» الذي يمنع انتخاب رئيس للجمهورية خطر على لبنان وليس على المسيحيين فقط. لا يستوعب ان وصوله الى رئاسة الجمهورية بفضل سلاح «حزب الله» الايراني خطوة أولى على طريق تغيير طبيعة النظام اللبناني. ولكن ما الذي يمكن توقّعه من شخص لم يدرك يوماً معنى إعادة الحياة الى بيروت، من رجل لا يستطيع ان يسأل نفسه لماذا يقيم في الرابية وليس في حارة حريك حيث مسقط رأسه؟

يعطي وجود عون في الرابية وليس في حارة حريك فكرة عن التحولات التي شهدها لبنان وحجم التراجع المسيحي الذي لا يمكن وضع حد له الّا بالعودة الى الدولة التي تحمي كلّ اللبنانيين من دون أي استثناء من ايّ نوع. لا خيار آخر غير العودة الى الدولة بدل الالتحاق بدولة «حزب الله» التي تقاتل في سورية الى جانب نظام اقلّوي، وهو تورط ستكون له نتائج وخيمة على الوطن الصغير، بكل طوائفه، في المدى الطويل.

من لا يستطيع التعاطي مع هذه المعادلة البسيطة، التي تعبّر في جانب منها عن الإفلاس المسيحي، لن يفهم يوما معنى وجود لبنان ودور مسيحييه ومسلميه في مرحلة ما بعد انهيار سورية والعراق في ظلّ السعي الايراني الى وضع اليد على الوطن الصغير...