&&سمير عطا الله&

&&لا أذكر على وجه الضبط كم سنة من سنوات طفولتي أمضيت في القرية. ربما ثلاث. ربما أربع. ليس أكثر. إلا أن القرية ضربت عليّ سحرها وحنانها. أولاً، لأن سنواتها كانت إلى جانب الأم، وثانيًا، لأن سني الطفولة حُفرت في الروح. وكلما كبر الإنسان، عاد إلى نقاء النفس وصفاء الحياة.

غير أن القرية ظلت بالنسبة إليّ مثل لوحة معلقة على جدار. تراها ساكنة بألوانها ولا تدخل إليها. البيوت لا تُدخل إلا في المناسبات، فرحة أو حزينة. والفضول لا تسمح به الآداب. وعندما ترى الناس على الطرق، كبارًا أو شبابًا، أو من أترابك، فجميعهم باسمون كأنما السعادة نبع يغرف منه الجميع، مثلما يعبئون جرار المياه من العين. ولاحظ جنابك ماذا يسمى نبع الشرب، العين.

الشكوى غير لائقة إلا في الصمت وضوء القمر. «الحمدلة» مفتاح الحوار، بدءًا وختامًا. والساحة الصغيرة ملعب الأطفال في النهار، ومقعد الذكريات في العصر، عندما يجتمع كبار السن لكي يرووا لبعضهم بعضًا ذكريات الاغتراب وحكايات المدن البعيدة في أدغال المكسيك وسهول الأرجنتين وبحيرة ميشيغان. أحدهم لا يزال في القبعة التي عاد بها تغطي القحل العظيم في الشّعر في الليل والنهار. وآخر لا يزال في ثياب الأرجنتين. والذين لم يسافروا وراء البحر، احتفظوا بطرابيشهم، تكفل المهابة والوقار، سواء مائلة إلى الشمال أو إلى اليمين. ولن تُرفع إلا قليلاً لحك جلدة الرأس من العرق. أو للبحث عن فكرة ضائعة.

قرأت معظم ما كتب عن القرية وعالمها. والآن أقرأ، لا أدري لأي مرة، كتاب الدكتور أنيس فريحة «اسمع يا رضا». فجأة تنبهتُ إلى أن القرى ليست لوحة على جدار. وإنها ليست ابتسامات الطرق وذكريات الساحة. إنها حكايات التعب والشقاء والقوت الصعب. حكايات النفوس الكبار المتعبة بمرادها. قصص الأزواج والأبناء الذين يهاجرون ولا يعودون. والبيوت التي تتحول إلى خرائب مهجورة لها أسماء ماضية وليس لها أصحاب. كان الدكتور أنيس فريحة عالمًا في اللغات القديمة وجبارًا من جبابرة القرى، بدأ حياته دباغًا يبيع الجلود الثقيلة على ظهره. وشاعرنا خليل حاوي، بدأ حياته معماريًا قبل أن يصبح أستاذًا في جامعة كمبريدج. ورئيس الجامعة اللبنانية الدكتور ميشال عاصي، بدأ حياته سائق تاكسي، وظل حتى ابن سبع سنوات لم يتذوق تفاحة. وفي السابعة، قرر أن يخطف واحدة من البقال، فلحق به هذا وضربه. وقد عاد إليه بعد سنوات يشتري تفاحة واحدة: أعرف أنك فقير مثلي، ولن أخطفها.

&&

&