أمير طاهري
إن سماع الدبلوماسيين والساسة وهم يتحدثون في شأن سوريا، يميل لأن يفضي سريًعا إلى عبارة مبتذلة: ليس هنالك حل عسكري!
لكن ماذا لو كان العكس صحيًحا، بمعنى أن «مشكل» ما يزيد على الخمس سنوات، لا يمكن حله إلا من خلال عمل عسكري؟ من المثير للاهتمام أن كل أولئك الذين يتحدثون عن أن «لا حل عسكريا...» لا يفعلون إلا القيام بعمل عسكري في سوريا، وهو ما يعني عملًيا إلقاء القنابل من الجو وقتل أعداد كبيرة من المدنيين.
بعد بضعة أيام على خروج وزير الخارجية الأميركي جون كيري علينا بعبارة «لا حل عسكريا...»، خرجت علينا وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» بخطة جديدة لتصعيد عمليات القصف الجوي في سوريا. كرر «صديق» كيري الإيراني المقرب، محمد جواد ظريف، مؤدًيا دور وزير الخارجية، هذه اللازمة، فيما كان في جولة إلى كوبا قبل أيام قليلة على منح رؤسائه في طهران «تسهيلات في استخدام القواعد العسكرية» لروسيا، لتصعد من خلالها عملياتها لضرب سوريا.
وكان نظير ظريف التركي، مولود جاويش أوغلو، قد كرر هذه العبارة قبل ساعات على إعلان أنقرة عن خطة جديدة لـ«عمليات عسكرية كبرى على الحدود مع سوريا». انضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى هذه الجوقة، وكرر الشعار القائل بأن لا حل عسكرًيا لسوريا، في تمام الوقت الذي كانت فيه قاذفاته الاستراتيجية تقتل السوريين على نطاق أوسع. من الناحية النظرية على الأقل يمكن أن يكون هناك حل عسكري لكل مشكلة تقريًبا في سياق النزاعات الوطنية أو الدولية.
وما عليك إلا أن تتخيل لو كانت لدينا قوة أو مجموعة قوى قادرة على استخدام ما يكفي من القوات وقوة النيران للإطاحة ببشار الأسد، و«داعش»، وكثير من الجماعات، وزعماء العشائر، الذين يسيطر كل منهم على جزء من سوريا. ربما تستغرق الخطة بعض الوقت، ولكنها في الإمكان من دون شك، وبخاصة عندما يتذكر المرء أنه من دون الأموال والعتاد من الخارج، لا يمكن للشخصيات التي تحكم سوريا أن تستمر طويلا. إذن، لماذا أخفق العمل العسكري حتى الآن في وضع نهاية للأزمة السورية؟ السبب هو أن القوى الضالعة في هذا الوضع المعقد يمكن تقسيمها لـ3 فئات.
أولاً، هناك إيران وتركيا الإردوغانية التي تعاني جنون العظمة، اللتين لديهما سقف طموحات مرتفع لكنهما لا تملكان الوسائل لتحقيقها. ثانًيا، هناك الدول الباحثة عن دور، وهي قوى متوسطة الحجم مثل بريطانيا وفرنسا، اللتين ترغبان في اللعب في الدوري الكبير، لكنهما تفتقران إلى الوسائل المطلوبة. ويلجأ هذان البلدان إلى تنفيذ غارات رمزية تقتل السوريين ما من شك في هذا، ولكنها لا تحقق أي شيء بالمعنى العسكري. (نفذت المملكة المتحدة 52 طلعة جوية خلال ما يزيد على 6 أشهر!).
وأخيرا، لدينا الولايات المتحدة وروسيا اللتان تملكان القوة العسكرية، بما في ذلك الحلفاء المحتملون، للعب الدور المؤثر المطلوب.
ومع هذا، فحتى هذان البلدان ارتكنا إلى الرمزية لأسباب مختلفة: باتت الولايات المتحدة مقيدة بتحليل الرئيس باراك أوباما المتأصل للعداء لأميركا في التاريخ المعاصر، والذي بموجبه يؤدي البلد الذي يقوده الآن دور المتنمر. (يقول أوباما إنه يتألم لكون الولايات المتحدة أرغمت إمبراطور اليابان على أن يتوجه لإذاعة طوكيو، ويعلن شخصَيا استسلام بلاده للولايات المتحدة).
ليس موضوعنا هنا ما إذا كانت هذه النزعة الآيديولوجية عند أوباما نتاًجا لنوايا نبيلة من عدمه؛ إنما المسألة هي حقيقة أنه منع الولايات المتحدة من لعب دور اضطلعت به منذ الحرب العالمية الثانية، كراعية للاستقرار في مناطق عدة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط الذي تمثل سوريا جزًءا مهًما فيه.
كذلك الأمر بالنسبة لروسيا، التي تملك قوة النيران والقوات لكتابة سيناريو الوضع السوري بالقوة، وبخاصة الآن، حيث تصمم الولايات المتحدة على الاكتفاء بدور المتفرج. ومع هذا، فبوتين شخصية براغماتية، وهو عازم على الفوز بأقصى الميزات بأقل مجهود. هو يعرف أن نظامه يتجه بسبب الأزمة الاقتصادية الشديدة والغضب الاجتماعي المتصاعد، إلى طريق وعر
يمكن أن يجعل التدخل العسكري على نطاق واسع في سوريا أكثر خطورة. ومن ثم، فهو في الوقت الراهن وتقديم نفسه كصديق حقيقي يدافع عن أصدقائه، فيما الأميركيون يطعنون أصدقاءهم في الظهر، وبطلاً يحاول أن يتشبث بما في الإمكان: حقوق في استخدام القواعد في إيران، وتوسيع قواعده في سوريا، للحرب العالمية على الإرهاب.
ومن ثم، ففي غياب العمل العسكري عن الطاولة، يركز الجميع على دور دبلوماسي غير حقيقي يقوم على مسألتين: اتفاقات جزئية لوقف إطلاق النار، ومستقبل الأسد الابن. أما من جهة المأساة السورية الأوسع نطاًقا، فكلتا المسألتين عديمتا الصلة إلى حد بعيد.
لم تعد اتفاقات وقف إطلاق النار غير المستقرة سوى فواصل قصيرة في صراع حتى الموت، ومن ثم فهي تطيل من أمده.
ومستقبل الأسد ليس مسألة مهمة؛ لأنه ليس لديه مستقبل. لا أحد يتخيل أن يستعيد الأسد مركًزا فقده في 2011، أو حتى أن يكون قادًرا على الخروج من خندقه ليقوم بهجوم مباغت ومؤثر في سوريا.
لقد دخل الأسد التاريخ بالفعل، بوصفه رئيس الدولة الوحيد الذي استدعى القوى الأجنبية لأن تجيء وتأتي بني وطنه بالموت من الجو. ومن ثم فقد خان الرجل أول وأهم واجب لرئيس دولة: أن يحمي أرواح شعبه
قبل ما يقرب من 80 عاًما استدعى الجنرال فرانسيسكو فرانكو ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية لأن تجيئا وتقتلا الإسبان بطريق القصف الجوي. وقد فعلتا، وكانت من نتائج ذلك مجزرة غيرنيكا، التي صارت تجسيًدا للعار في التاريخ الحديث.
أما الأسد فقد جاء بما هو أسوأ حتى مما فعله فرانكو، إذا عرفنا أن الجنرال عندما استدعى الفاشيين، لم يكن رئيس دولة، وإنما كان متمرًدا يقاتل ضد الحكومة. ومع هذا، فقد قتل القصف الألماني - الإيطالي لغيرنيكا عدًدا أقل من 300 شخص، وهو عدد «تافه» مقارنة بضحايا القصف الروسي في حلب في أسبوع واحد.
كسب فرانكو الحرب الأهلية؛ لكنه لم يتعاَف أبًدا من الخطأ المأساوي باستدعاء الأجانب للمجيء وقتل شعبه. لا يتورع الأسد عن مد السجادة الحمراء لـ«حماة» الأضرحة غير الموجودة، القادمين من إيران، ناهيك عن المرتزقة من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، القادمين لإشاعة القتل في سوريا.
بدأت الحرب السورية كانتفاضة شعبية تطالب بالإصلاح. وتطورت إلى ثورة وطنية ضد نظام الحزب الأوحد الذي يقوده الأسد. وبسبب أخطاء كل الأطراف انزلقت لتصير إلى مزيج من الحرب الأهلية والنزاع الطائفي والفظائع الإرهابية. ولقد أصبحت الآن مأساة إنسانية على نطاق غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. ولوضع حد لهذه المأساة، علينا أولاً أن نردها إلى بداياتها. لكن هذه قصة أخرى.
التعليقات