&حسن حنفي

تم إخراج مفاهيم العولمة أو الكونية والحوكمة ونهاية التاريخ لتقوية المركز، ونحت مفاهيم أخرى للتصدير إلى الأطراف مثل مفاهيم «ما بعد الحداثة»!

اجتهد المفكرون العرب في ترجمة Globalization عولمة أو كونية. ويستحسنها البعض لأن الهامش سيجد له مكاناً في المركز ولو في سياق حوارات الشراكة متعددة الأطراف، على رغم إخفاق حوار الشمال والجنوب، والحوار العربي الأوروبي، وحوار الشرق والغرب. وقد أصبح كل من يدافع عن الخصوصية والأصالة والهوية الثقافية والاستقلال الحضاري، في نظر البعض، رجعياً، ظلامياً، متخلفاً، ماضوياً. كما انتشر مفهوم الحوكمة أي مركزية التحكم وإصدار القرارات في المؤسسات، واللامركزية، وتسيير أمور العمال وفائض الإنتاج. وازدهرت كليات الأعمال والإدارة Business & Administration، وأنشئت الجامعات الخاصة المنتقاة لتكوين رجال أعمال المستقبل في «إفران» مثل «جامعة الأخوين» في المغرب حيث تدخل الثقافة الإنجليزية لأول مرة مخترقة الثقافة الفرنسية بعد تحول المركز الثقافي اللغوي من الفرانكفونية إلى الأنجلوفونية. ولا فرق أحياناً في البنية بين العولمة والحوكمة في إعطاء الأولوية للمركز عن الأطراف.

كما صدّرت مراكز البحث الاستراتيجي في الغرب خاصة في الولايات المتحدة مفهوم «نهاية التاريخ» بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وانتصار الرأسمالية وكأن هدف التاريخ قد تحقق، والزمن قد انتهى، والقيامة قد قامت. ولم يعد هناك تطور ولا تغير ولا انتقال إلى مرحلة أخرى قادمة. فتم الحكم على المستقبل سلفاً ومصادرة الطريق إليه، وإيقاف دورات الزمن. وضاعت أزمات الرأسمالية في زحمة الإعلام، وسيطرة الرأي الواحد على شبكات الفضاء. بدأها الفيلسوف هيجل إعلاناً عن قيام الدولة الألمانية القوية الموحدة ومركزها بروسيا. وكانت فرنسا قد أعلنت من قبل عن توقف الزمن بانتصار الثورة الفرنسية ومبادئها الثلاثة: الحرية، الإخاء، المساواة. كما اعتبر كل تيار ومذهب نفسه نهاية التاريخ، الرومانسية، المثالية المطلقة، الوضعية، الثورة الصناعية، الظاهراتية، الوجودية، البنيوية، الماركسية، البراجماتية، التحليلية، بل والأيديولوجيات السياسية المتطرفة في القرن الماضي كالنازية والفاشية. ووقعت حضارة التقدم المستمر في تناقض مع نفسها بإيقاف التقدم وإعلان نهاية التاريخ. مع أنه في حضارات أخرى يبدأ التاريخ دورة جديدة، من نهضة وتقدم وحداثة كما هو الحال لدى الشعوب المتحررة حديثاً.

وإن كان قد تم إخراج مفاهيم العولمة أو الكونية والحوكمة ونهاية التاريخ لتقوية المركز فإنه قد تم أيضاً نحت مفاهيم أخرى للتصدير خارج المركز إلى الأطراف مثل مفاهيم «ما بعد الحداثة» ونهاية عصر الحداثة الذي ارتبط بالقانون والنظام، والتنظير والعقلانية والترشيد، والتحكم في قوانين الطبيعة، وغائية الإنسان والكون، والتقدم والطموح، وهي المفاهيم التي قامت عليها حضارة المركز ذاته منذ بداية عصوره الحديثة حتى الآن، وبالتالي بداية عصر الفوضى في الطبيعة، والمعاداة للمنهج، وهد العقل، والتعددية بلا غاية أو هدف، وغياب الحوار والتفاهم والتخاطب! وكأن الغرب بعدما نعم بالحداثة ومآثرها واكتفى منها وسئمها يريد هدمها بما فيه من قوة وقدرة على التجاوز محاولاً منع الثقافا ت الأخرى من الوصول إليها والاستفادة منها وخاصة أنها في مرحلة التحول من القديم إلى الجديد، ومن التراث إلى الحداثة، ومن الماضي إلى المستقبل. كما ذاع مفهوم «التفكيك» كخطوة أبعد من التحليل، تفكيك كل شيء بما فيه العقل وحده، اللوجوس الذي جعله القدماء أحد تجليات الألوهية وأشكالها. أصبح الشيطان الذي يجب التخلص منه، نسيج العنكبوت الذي يجب تقطيعه حتى لا يبقى شيء، ولا حتى العنكبوت نفسه «دريدا». وفي التحليل كانت الغاية ضبط العبارة وإحكام اللفظ تجنباً للإنشائية والخطابة. وفي التفكيك تبدأ الكتابة من درجة الصفر «بارث».

فالفكر مجرد وحدات كتابية لا تعبر عن معنى سابق ولا تفيد معنى لاحق. الفكر أجراس اللغة وأصوات الألفاظ وحضارات الهامش تحاول التجميع والتركيب خوفاً من التفتت والتشرذم والضياع باسم الِملل والنحل والأعراف وبحجة الطوائف والأجناس. وأخيراً يتم تصدير «صراع الحضارات» للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء بعض الشعوب في الهامش بثقافاتها التقليدية. بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض الإنتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية!