راغدة درغام
عندما تزعم إدارة الرئيس السابق باراك أوباما أنها رضخت مضطرة لإصرار إيران على الفصل التام بين المفاوضات على الاتفاق النووي وطموحات طهران الإقليمية، فإنها تتناسى عمداً أنها هي التي مكّنت «الحرس الثوري» من التدخل في سورية والعراق علناً، لأن واشنطن وافقت على إلغاء قرارات مجلس الأمن التي كانت منعت إيران من تصدير السلاح والرجال خارج حدودها أو استخدام ميليشيات ودعمها.
وافقت إدارة أوباما على محو هذه القرارات المهمة لكبح ولجم «الحرس الثوري»، ولم تكن مجبرة وإنما برضاها الكامل، بذريعة ضرورة إبرام الاتفاق النووي كأولوية في اعتبارات المصلحة القومية الأميركية وبأي ثمن إقليمي. ومع رفع العقوبات عن إيران –في أعقاب إبطال قرارات مجلس الأمن التي منعتها من التوغل عسكرياً خارج أراضيها– استفاد «الحرس الثوري» من ضخ أموال غزيرة عليه نتيجة فك تجميد بلايين الدولارات التي أطلقتها واشنطن كجزء من الاتفاق النووي.
لهذه الأسباب، إن الإدعاء بأن التوسّعات الإيرانية في العراق وسورية لم يكن لها علاقة بالاتفاق النووي، إنما هي ادعاءات غير نزيهة، لأن إدارة أوباما كانت تعرف تماماً ماذا تفعل من خلال تمكين إيران من التوسع في سورية والعراق عبر «الحرس الثوري»، الذي هو جزء من النظام في طهران –بل جزء أساسي.
وهكذا، لم يغمض الرئيس السابق عينيه كي لا يرى المجازر التي ساعد فيها «الحرس الثوري» في سورية لحماية بشار الأسد وإنقاذه من المصير الذي توعّد به باراك أوباما نفسه بأن عليه أن يرحل، فحسب، بل قامت إدارته بتمويل الأمر الواقع لنشاطات «الحرس الثوري» في سورية والعراق عندما كان في أشد الحاجة للأموال، وشرعنت إدارة أوباما العمل العسكري الذي قام به «الحرس الثوري» في سورية والعراق واليمن ولبنان، عندما وافقت على إبطال قرارات مجلس الأمن التي اعتبرت أي تدخل عسكري غير شرعي يستدعي إنزال العقوبات ضد طهران.
هذا الكلام مهم اليوم لتذكير أولئك الذين يتباكون على «حكمة» باراك أوباما مقارنة بـ «تهوّر» خلفه دونالد ترامب إزاء مصير الاتفاق النووي مع إيران، بأن حبر التاريخ لم ينشف وعليهم مسؤولية أخلاقية للاطلاع على التاريخ بدلاً من جرفه تحت البساط لغاياتهم الضيقة. فصعود قوة «الحرس الثوري» ونجمه، وتعاظم قدراته العسكرية في الجغرافيا العربية، وازدياد قدراته على التحكّم داخلياً في إيران ليقمع الاعتدال ويتسلط على الحكم، إنما حصل لأن إدارة أوباما سمحت له بأن يحصل.
ولا يصح أن يقال إن ذلك حدث سهواً أو كإفراز اضطراري. إنه تحوّل تاريخي في منطقة الشرق الأوسط بقرار أميركي مدروس. فماذا يجري الآن، إذاً، مع ارتفاع وتيرة الكلام الصادر عن إدارة ترامب وفي الكونغرس بخصوص تصنيف «الحرس الثوري» منظمة إرهابية وبشأن مصير الاتفاق النووي بعدما يعلن دونالد ترامب أنه سيسلب منها (de–certify) المصادقة التلقائية أمام الكونغرس؟
ردود الفعل الإيرانية التي سبقت أي تحرك جدي من قبل الرئيس الأميركي والكونغرس لتصنيف «الحرس الثوري» إرهابياً، كانت سريعة وحازمة وحاسمة وانطوت عمداً على لغة التهديد الواضحة والتعهد بتلقين الدروس. فريق ما يسمى بالإصلاحيين والمعتدلين أسرع إلى المزايدة خوفاً، فقال وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أعقاب لقائه قائد «الحرس الثوري» الجنرال محمد علي جعفري: «الحرس مصدر فخر لبلادنا وهو ضامن أمننا واستمرار ثورتنا. إذا أقدمت أميركا على مثل هذا الخطأ الإستراتيجي، فسترد إيران بقسوة في الوقت المناسب».
جعفري كان صادقاً عندما وضع النقاط على الحروف، إذ دعا دونالد ترامب إلى أن «يكون واثقاً من أن الحرس الثوري والحكومة ووزارة الخارجية في إيران موحّدون» و «نحن على وفاق تام، وهناك تنسيق بين كل مؤسسات البلاد في إعلان المواقف ضد الأعداء»، وإيران «تحوّلت قوة إقليمية وعالمية كبرى».
التهديد أتى على لسان الناطق باسم الحكومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، الذي طالب العالم بأن يكون «ممتناً» لحرب «الحرس الثوري» على الإرهابيين، خصوصاً «داعش». وزاد: «من هذا المنطلق، فإن أي دولة تريد اتخاذ موقف مشابه حيال الحرس، ستكون مشتركة مع الإرهابيين والدواعش، وستلتحق بصفوفهم. إذا أرادت أميركا تصنيف الحرس الثوري على أنه تنظيم إرهابي، فستجعل نفسها في خندق واحد مع الإرهابيين».
الفورة في الصفوف الإيرانية الرسمية تفيد بأن طهران قلقة من احتمال تصنيف واشنطن «الحرس الثوري» إرهابياً، لأن ما يترتب على ذلك هو اهتزاز جذري لتركيبة النظام في طهران وكذلك تداعيات على الأنظمة التي تتعاون وتتعامل وتستضيف نشاطات «الحرس الثوري» على أراضيها.
ما تراهن عليه المؤسسة الإيرانية الحاكمة هو أن تكون التوعّدات التي تصدر عن إدارة ترامب هزلية لا جدية، وأن يتم إحباطها على أيدي حلفاء طهران في الاتفاقية النووية وعلى رأسهم منسقة السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، موغريني، والمستشارة الألمانية انغيلا مركل، إلى جانب روسيا والصين، بطبيعة الحال. إنما قلقها جدي، لا سيما أن ما ينوي عليه دونالد ترامب هو الاعتماد على إعفاء الكونغرس الذي لطالما بحث عن وسيلة لتقليم أظافر إيران، بالذات من ناحية الاتهامات لها برعاية الإرهاب، وليس فقط من ناحية توسعاتها الإقليمية وتوطيد قدراتها على الهيمنة في منطقة الشرق الأوسط.
«الحرس الثوري» أهم لطهران من الاتفاق النووي بكثير. إنه عمود فقري للنظام الحاكم وللثورة الإيرانية، وأي إجراءات ضد «الحرس» ستؤثر جذرياً في السياسات الإيرانية الخارجية والداخلية. لذلك، تريد طهران الآن ربط الأمر الواقع بين الاتفاق النووي ورفضها القاطع أن تتطرق واشنطن إلى «الحرس»، بما يحمي الاثنين من الإجراءات.
قد توافق طهران على إدخال عنصر الصواريخ الباليستية على الاتفاق النووي بصورة جدية إذا ضمن لها ذلك حماية «الحرس الثوري» من إجراءات فعلية عبر تصنيفه إرهابياً. إنها تعي أهمية تحدي الرئيس الأميركي مسألة التصديق التلقائي على تنفيذها ما هو مطلوب منها، في إطار الاتفاق النووي، ليس لاعتقادها أن هذا سيؤدي إلى تمزيق الاتفاقية –والتمزيق ليس وارداً الآن– بل لأن إلغاء التلقائية أو الأوتوماتيكية يعني أن دونالد ترامب يرمي الكرة في ملعب الكونغرس. وهذا خطِر على إيران.
ما يعنيه تعبير سحب التصديق أن طهران تلتزم تنفيذ الاتفاقية كل 90 يوماً، هو أن دونالد ترامب لا يريد أن يوقّع شهادة بأن إيران تنفّذ ما يتوافق مع انتقاداته لصلب وفحوى الاتفاق النووي الذي يعتبره من أسوأ الاتفاقات. هذا لا يعني أبداً أنه في صدد تمزيقه. فلو أراد فتح ذلك الباب، من حقه كرئيس أن يعلن أن الاتفاق ليس في المصلحة القومية للولايات المتحدة بغض النظر عما إذا نفذته طهران أو لم تنفذه.
ما قد يريده دونالد ترامب هو أن يعيد فتح المفاوضات في مسألة الصواريخ، لكنه لا يطرح فكرة توسيع المفاوضات لتشمل التوسعات الإيرانية الإقليمية. لعل في ذهنه فتح ذلك الملف يكون عبر تصنيف «الحرس الثوري» إرهابياً. لكنه ليس في صدد تمزيق الاتفاق.
السؤال هو، ما هي الإجراءات التي ستترتب على الأمرين: تصنيف «الحرس» إرهابياً، وسحب تصديق الرئيس الأميركي على قيام طهران بتنفيذ الاتفاق النووي كل 90 يوماً؟ فالمسألتان معقدتان. ثم إن إعلان مثل هذين الموقفين من دون اتخاذ إجراءات فعلية وجدية، سيسلب الصدقية من دونالد ترامب، وكذلك من الكونغرس.
الاندفاع الإعلامي في التمسك الصارم بالاتفاق النووي مع إيران لافت في أنه يعكس بدوره استعداد هذا الإعلام لغض النظر عن التوسعات الإيرانية في الجغرافيا العربية على أيدي «الحرس الثوري»، بل استعداده لرفض التصنيف الإرهابي لـ «الحرس» مهما فعل أينما كان.
هناك نوع من الرضوخ في صفوف الإعلام الأميركي الليبرالي لفكرة «لا خيار آخر سوى» الرضوخ أمام الطموحات النووية لكل من إيران وكوريا الشمالية. النغمة «الدارجة» هي التلويح بأن التصدي لإيران والاتفاق النووي معها سيعزز عناد كوريا الشمالية على أساس أن أميركا لا تحترم الاتفاقيات. واقع الأمر أن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون يتذكر مصير العقيد الليبي معمر القذافي كمثال على ما تفعله أميركا بالذين يتخلون عن السلاح النووي، ومصير صدام حسين كمثال عن الذين يوافقون على إخضاع بلادهم لتفتيش جدي على أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
اللافت أن الليبراليين في الإعلام الأميركي قرروا الرضوخ أمام الأمر الواقع والإقرار بأن لا رجعة عن امتلاك كوريا الشمالية القدرات النووية المسلحة، تماماً كما إيران. إنهم يوافقون عملياً على نسف المبدأ الذي تحكم بالمسألة النووية لسنوات، وهو «عدم السماح بانتشار الأسلحة النووية» (nonproliferation)K وهذا بحد ذاته أخطر الأخطار.
المعركة مع دونالد ترامب شيء، والتعامل مع الملف النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية شيء آخر. من حق الإعلام الأميركي أن يدق ناقوس الرعب من رئيس يتهمه بأنه «متهوّر» و «جاهل» و «اعتباطي» و «غير سليم للحكم». إنما ليس من حقه أن يتجاهل إفرازات مرعبة لسياسات سكت عنها ثم استفاق لينتقدها، مثل حرب جورج دبليو بوش في العراق، ولسياسات أميركية مكّنت تنظيماً عسكرياً إيرانياً خارجاً عن الجيش الوطني من فرض سيطرته في العراق والدخول طرفاً في الحرب السورية لسحق المعارضة المعتدلة التي زعمت إدارة أوباما أنها تدعمها.
التعليقات