ليون برخو
كثيرة هي الصراعات التي تعصف بعالمنا اليوم. وعند سماعنا وقراءتنا للأخبار قلما يدور في خلدنا أن هناك حربا خفية تدور حول اختيار المفردة لا تقل شراسة عن الحروب والصراعات التي يقول الإعلاميون إنهم ينقلونها لنا كما هي دون رتوش، هذا إن صدقنا مبدأ الموضوعية الذي تتباهى به الصحافة الغربية.
ونقل الحدث، أي حدث، يحتاج إلى لغة (خطاب). نحن ننتقي المفردات من معجم اللغة ونرتبها وننسقها في عبارات وجمل حسب قواعد وصرف اللغة التي نكتب بها.
بيد أن هناك شكوكا كثيرة حول إن كنا أحرارا في انتقاء المفردةأم لا. ليس هذا وحسب بل إن كنا أحرارا في ترتيب وتنسيق العبارة والجملة أيضا.
قد يسأل القارئ الكريم كيف يكون هذا؟ وقد يذهب قارئ آخر أبعد من ذلك بإثارة سؤال إن كنا نحن سادة للغة أم عبيدا لها؟
يتصور كثير منا أن اللغة لا سطوة ولا سلطان لها، وإن كان لها أي قدر من القوة فإنها تستمدها من اختيارنا لها وسيلة للتواصل. وبما أننا نختار فنحن أحرار.
لا سلطة في الدنيا أكثر تأثيرا من سلطة اللغة. اللغة، أي لغة، تحتلنا وتجعلنا إلى حد ما عبيدا لها. نحن نلتجئ في الغالب إلى الأطر الخطابية الجاهزة على مستوى المفردة والعبارة وأحيانا حتى الجملة لتوصيف حالة أو حدث.
بمعنى آخر، إن واقعنا الاجتماعي يبني لنا اللغة والأطر الخطابية من المفردة وأحيانا الجملة والسياق ومنها نحن ننهل وليس غيرها، وهي التي نستخدمها ونلجأ إليها وهي التي تتحكم في طريقة تفكيرنا.
حتى على المستوى الفردي ترى مثلا أننا نهرع لاستخدام مفردات وعبارات محددة وجاهزة وأحيانا دون وعي منا عند دخولنا في مشاجرة أو خصام مع شخص ما.
ليس هناك شيء في الدنيا يمكننا من معرفة من نحن اجتماعيا وثقافيا وسياسيا مثل اللغة. اللغة تشكلنا لا بل تتحكم فينا من حيث الثقافة والمواقف. وتركيبتنا الاجتماعية تشكل لنا الأطر الخطابية التي علينا انتقاؤها واستخدامها.
ولأن اللغة تعكس مواقفنا الاجتماعية والثقافية، شخصيا رأيت العجب العجاب في التوصيفات اللغوية التي رافقت مذبحة لاس فيجاس ومقترفها ستيفان بادوك.
ومن خلال قراءتي وتحليلي للخطاب الإعلامي والسياسي في نقل وتوصيف وإبداء الرأي في هذه المجزرة الرهيبة التي راح ضحيتها نحو 60 شخصا وجرح أكثر من 500، صار لدي يقين أن اللغة حتى على مستوى المفردة تبسط علينا سلطة قد لا تضاهيها أي سلطة أخرى.
على المستوى السياسي والمؤسساتي كانت هناك تصريحات تدعو إلى التريث في إطلاق مفردة "الإرهابي" على مقترف الجريمة أو مفردة "الإرهاب" لتوصيف العمل الشنيع الذي قام به حتى معرفة معتقد الجاني وميوله.
لقد فرضت المواقف والميول سطوتها من خلال اللغة على الأطر الخطابية التي جرى استخدامها لنقل الحدث. ولأن مفردة "الإرهاب" ومشتقاتها لا تطلق اليوم إلا على الذين هم من لون وميل وثقافة محددة (العرب والمسلمين)، تجنب الإعلام وكذلك السياسيون وضباط الشرطة والمحققون استخدام مفردة "الإرهاب" عند الإشارة لهذه المجزرة المروعة.
كانوا بانتظار معرفة معتقد هذا المجرم لكي يحددوا إن كان إرهابيا أم لا. عندما ظهر أنه منهم وإليهم ومعتقده ولونه لا يختلف عما لديهم، صاروا تحت حكم الأطر الخطابية التي يفرضها عليهم واقعهم الاجتماعي وفي وضع كهذا.
وفرضت اللغة سطوتها على الخطاب الإعلامي وغيره عند الحديث عن هذه المذبحة. وهكذا صار مقترفها وكأن لا علاقة له بالواقع الاجتماعي والثقافي والعقائدي الذي نشأ فيه.
لو كان عربيا أو مسلما لألصقت تهمة الإرهاب ليس به وحسب بل بواقعه الاجتماعي أيضا، وكذلك ثقافته ومعتقده ومجتمعه، ولربما ذهبوا بعيدا إلى اتهام الكتب المدرسية التي قرأها وطالبوا بتغييرها.
وصار مقترف هذه المذبحة الفظيعة وكأنه هبط لنا من المريخ لا علاقة مباشرة أو غير مباشرة له بمجتمعه وثقافته وميوله ومعتقده. وصار المجرم هذا وكأن لا جذور له ولا مجتمع له نما فيه وفي حضنه، ولا ثقافة له أثرت فيه، ولا لغة له صقلت سلوكياته، ولا معتقد له جعل منه ما هو عليه.
وحاولت جمع التوصيفات التي قيلت فيه ورأيت أن أغلبها جاء كي يبعد تهمة الإرهاب عنه ومن ثم جعله ظاهرة فردية واستثناء لا علاقة له من قريب أو بعيد بمجتمعه وثقافته ومعتقده.
وهكذا، ولأن المجرم ليس عربيا ومسلما، فإنه ليس إرهابيا أبدا بل شخص مقامر، مجنون كان والده لصا ومجرما، ذئبا منفردا، ومحاسبا سابقا، وغنيا، وصامتا لا يكلم أحدا، وإلى غيره من التوصيفات التي تبرئ ساحة مجتمعه وسياقه الاجتماعي وثقافته ومعتقده مما ارتكبه من جرم فظيع.
تصور للحظة ماذا كان سيكون الأمر لو ظهر أنه كان قد تحول إلى الإسلام ولو منذ شهرين قبل تنفيذ جريمته؟
ما يحز في القلب هو موقف الإعلام العربي الذي يجاري الإعلام الغربي في كل شيء تقريبا حتى إن كان الحدث بدرجة من الوضوح كما كانت عليه العملية الإرهابية المروعة التي اقترفها ستيفان بادوك.
التعليقات