حسن حنفي

 هناك عدة اتجاهات للربط بين الموقف المسلم المعاصر وحقوق الإنسان. وهي كلها في الساحة. تتعاون أحياناً وتتناحر أحياناً أخرى. والساحة فسيحة تقبل كل الاجتهادات. ولكل اتجاه أدبياته ومنظماته الوطنية والقومية، المحلية والعالمية، والكل يتسابق على الإعلان عن النفس، وإبراز الجهد، وإثبات الريادة، وإكثار النشرات، وتوالي الندوات، وعقد المؤتمرات، واللجوء إلى القضاء دفاعاً عن حقوق الإنسان في حرية التعبير والحركة التي تكونها الدساتير. والخلاف بينها في المضمون الذي قد يكون واحداً ولكن في المنهج، كيفية المقاربة بين حقوق الإنسان والإسلام أي في طريقة فهم «واو» العطف وليس في فهم الطرفين المعطوفين، فالموضوع يرد إلى المنهج أي إلى طريقة التناول وأساليب التفكير ووسائل البيان.

وأول هذه الاتجاهات، التقدمية الغربية، وهو تيار يرى أن الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان، الأول منذ الثورة الفرنسية 1789، أو الثاني بعد الحرب الأوروبية الثانية 1948، هو الإعلان العام والشامل للإنسانية جمعاء بصرف النظر عن ظروف الحرب والنظرية العنصرية التي قامت عليها. يمكن تطبيق هذه الحقوق على كل المجتمعات بصرف النظر عن ظروف كل منها. ولا توجد أسس فلسفية أو تصورات خاصة تقوم عليها كالفردية التي تميز الفلسفة الغربية والتصور الغربي للعالم. هي تعبير عن العقل الخالص، وحقوق الإنسان في كل زمان ومكان، لا تفرق بين ألمانيا ورواندا، بين أوروبا وأفريقيا أو بين أميركا وآسيا. ولا يهم التطبيق في غمرة الإعجاب الفكري والوئام النظري والاغتراب الحضاري.

ويحل هذا الاتجاه العلاقة بين الطرفين بمحاولة استبعاد أحدهما، وهو الإسلام، وإثبات الآخر وهو حقوق الإنسان كما صاغها الغرب. ولا يجتهد في إيجاد منطق للعلاقة بين الاثنين. فالموقف واضح ولا مجال للاختيار أو المقارنة أو للقراءة أو التأويل. وكل ذلك مواقف توفيقية غير علمية. تخشى من الجذرية، وتنقصها الشجاعة، وينتابها التخوف من الغرب بدعوى الخصوصية أي الانعزال والانكفاء على الذات. ويمثل هذا التيار نخبة من المثقفين العلمانيين المتغربين الذين يرون الغرب ثقافة عالمية واحدة تعبر عن إنسانية واحدة، لا فرق فيها بين عالمية وخصوصية، بين الآخر والأنا. تتنوع الثقافات في اللغات والعادات والأعراف والفنون الشعبية. أما القيم فواحدة عبر الثقافات. ولما كان الغرب هو نموذج الحداثة كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة عامة وبياناً للناس بصرف النظر عن أجناسهم وثقافاتهم وتقاليدهم، وفق هذا الرأي. ويبدأ الغرب من اليونان وكأنه لا توجد حضارة قبلهم في الشرق.

وهو موقف لا يتعلق بحقوق الإنسان وحدها بل هو موقف حضاري عام في كل مظاهر الحياة الثقافية. ينكر على الأنا خصوصيتها لحساب عالمية الآخر. يعطي الأنا أقل مما تستحق، ويعطي الآخر أكثر مما يستحق. يدل على الاغتراب، اغتراب المثقف عن ثقافته وهويته وتماهيه مع ثقافة الآخر وهويته. يخرج نفسه من مسار وعيه الثقافي التاريخي ويضع نفسه في مسار الوعي الثقافي والتاريخي للآخر. لا يكاد يؤثر في المجتمعات العربية والإسلامية لأنه مهتم بالتغريب وبالتمويل الأجنبي. وربما يتبنى مضمون الإعلان الغربي وبرنامجه وفلسفته الفردية الغربية دون أن ينقد ممارسته ومعياره المزدوج داخل أوروبا وخارجها، ودون تطويره من حقوق الإنسان إلى حقوق الشعوب. وهو موقف يضع الخاص في العام، وينكر خصوصية وضع القضية في كل حضارة وفي إطارها الثقافي والاجتماعي والسياسي والدولي.

ثم هناك اتجاه آخر هو موقف عن طريق السلب، يرفض أي محاولة لقراءة مواثيق حقوق الإنسان الدولية من منظور الثقافات الخاصة، مسلمة أو غيرها. ولا يتناول الإسلام على نحو مباشر، طبقاً لتحليل مضمون هذه الكتابات، ولكن الموقف المسلم في اللاشعور النافي للربط ولإيجاد العلاقة. وهو دافع للنفي وباعث على تجاوز الأنا إلى الغير. فكأن الحضارة الإسلامية، وفق هذا الموقف، تقوم على عدم تناسب بين الحقوق والواجبات لصالح الواجبات دون المقارنة مع الحضارة الغربية التي قد تقوم على خلل مضاد. إذ إنها تقوم على الحقوق دون الواجبات على رغم الإعلان الأخير عن محاولة بعض المجتهدين لصياغة «الإعلان العالمي للواجبات الإنسانية».

ويقوم الإعلان الأول لحقوق الإنسان عام 1789 على مبادئ، تعبر عن الفطرة ويقبلها العقل. الأول يتعلق بالحرية الطبيعية والمساواة في الحقوق. والثاني حرية الفكر والتأليف دون الإضرار بالغير. وقد كررت الوثيقة الثانية عام 1948 نفس المبادئ. فقد شملت واحداً وثلاثين مادة تجمع أيضاً بين حقوق الأفراد وحقوق الشعوب إلا أنها أكثر تركيزاً على حقوق الأفراد مع مزيد من التفصيل. وتركز على الحقوق أكثر مما تركز على الواجبات مما أدى إلى المعيار المزدوج في التطبيق. الحقوق فقط داخل أوروبا الغربية دون واجبات للغرب وامتداد لهذه الحقوق خارجها.