عبدالحق عزوزي

في أدبيات العلاقات الدولية والاستراتيجية، هناك إجماع على أنه يجب على محترفي الأمن القومي أن يكونوا مدرَّبين على ضرورة التيقن في التخطيط من خلال معطيات حياتهم المهنية، خلافاً لمجال الاستراتيجية المبنية على بُعد نظر في بيئة معقدة ويطبعها الشك وعدم اليقين؛ وعلى المخطط أن يكون علمياً في مقارباته، ومفاهيمه، وتطبيقاته، بينما على الاستراتيجي أن يكون أكثر عمومية. وإذا قام المخطط أثناء التنفيذ بربط مفاهيمه مع تلك المتعلقة بالاستراتيجي (مع أنّ الخطة ناجحة)، فإنّ التأثيرات الاستراتيجية الناجمة عن دعم مثل هذا التصور، قد تفشل، وقد يكون لها مفعول عكسي. وعلى المفكر الاستراتيجي أن يكون صاحب قدرة كبيرة على تطبيق نظرية الاستراتيجية في العالم الواقعي، وأن يجمع بين مجالي الفن والعلم، وضرورة خلق توليفة تجمع حسابات التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، التي تطبع البيئة الدولية الحالية، أو لنقل البيئة الاستراتيجية.

ومن هنا لا بد من نظرة مقاراناتية لنضع مقاربة استراتيجية لما يجب أن يكون عليه أمن الخليج وأمن الدول العربية بدول محورية كالمملكة العربية السعودية، وأرى أنّ تجربة الحلف الأطلسي هي أفضل مثال يمكن أن يسرد في هذا الجانب، والذي يدفعنا إلى القول مدى أهمية التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، وهو يختلف عن تشكيل «القوة العربية المشتركة»، فالأول يستهدف مكافحة الإرهاب فقط، أما «القوة العربية المشتركة» فهي تتعامل مع التحديات، التي تواجه الأمن القومي العربي بمختلف أشكالها، وفي نطاق الدول العربية.

فمن يراجع خصائص الحلف الأطلسي، سيرى أنّ الساكنة التي تساهم هاته المنظومة العسكرية في وضع مظلة وقائية لها يقرب عددها 900 مليون نسمة، أي مجموعة ساكنة دول أعضائه، كما أنّ عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجومات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك. وهذا يعني مما يعنيه كثرة المشاكل الداخلية بين الدول المكونة للحلف وصعوبة إيجاد توافقات بين دول مختلفة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وذات تموقع جغرافي مختلف. فأمريكا ليست فرنسا، وفرنسا ليست ألمانيا أو بولونيا أو أوكرانيا. كما أنّ الأزمات المتتالية التي عرفتها المنطقة (أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم من طرف روسيا، ثم التدخل العسكري المباشر لروسيا في سوريا)، عقد السيناريوهات التي تضعها الدول المحورية في الحلف. فروسيا مازالت دولة نووية يمكن أن تزيل دولاً من الخريطة الجغرافية ولا يمكن مجابهتها عسكرياً، وإلا دخلت المنطقة فيما لا يمكن أن يحمد عقباه، كما أنّ عدم التحرك سيضع لبنات النظام الدولي في مستنقع المجهول.

ثم إنّ دولاً كدول أوروبا الوسطى والشرقية لا تهتم كثيراً بما يقع في جنوب المتوسط أكثر من تخوفها من روسيا بعد حرب أوكرانيا وضم القرم، وتسعى جاهدة في قمم متتالية أن يشير الحلف صراحة في بياناته إلى أنّ روسيا هي العدو الأول للحلف. ولكن في مثل هاته الظروف، يرى استراتيجيو الحلف ضرورة التمتع بالحكمة الاستراتيجية، في مقابل دولة نووية هي جزء رئيسي من النظام الجهوي والنظام العالمي، ويستحيل ترك دول مثل بولونيا تفرض على الحلف تخوفات اللحظة، لتؤخذ قرارات قد تقوض مبادئ التعايش مع روسيا.

فما أسميه بالحكمة الاستراتيجية هي ما يعطي للحلف قوّته، وهي سياسة أمينها العام الحالي وسياسة ألمانيا وفرنسا والمبنية على سياسة الردع الإيجابي، وعدم التصعيد العسكري مع روسيا، وعدم إقبار الاتفاق المؤسّس بين روسيا والحلف سنة 1997. ولكن مع ذلك قام الحلف بوضع قوات مراقبة دائمة في دول أوروبا الشرقية في ستة هياكل (Nato Force Integration Units) وهيكلين آخرين تم نشرهما في هنغاريا وسلوفانيا. كما أنّ مبدأ مشروع النشر السريع للقوات (RAP) تم تبنيه مؤخراً من الحلف الأطلسي، زيادة على قوات ذات التدخل السريع (VJTF) التي تستطيع التدخل داخل دول الحلف أو خارجه وبسرعة فائقة. كما أنّ الدولتين المحوريتين في أوروبا والنافذتين في الحلف (فرنسا وألمانيا) مع الولايات المتحدة الأمريكية، تحاول إقناع روسيا (وبدون جدوى طبعاً) أن تغطية الدول بمضادات للصواريخ ليست موجهة ضدها وإنما موجهة لدول مثل إيران.

ونحن نتحدث عن هذا الموضوع، لا يجب أن يُفهم كلامي أنّ كل دولة لا يجب عليها أن يكون لها من الردع والقوة العسكرية ما يكفيها، بل العكس من ذلك .. فلم تبلغ الأخطار الخارجية المحتملة ضد دول الخليج مثلاً كالتي تواجهها اليوم نتيجة سببين أساسيين: الخطر الإيراني المتزايد وتراجع الالتزام الأمريكي في المنطقة، وللذِّكر فإنّ خطر إيران زاد كثيراً ... فتوسيع الخيارات العسكرية وتحسين الأداء العسكري هي من الضروريات اليوم لكل دولة في عالم يطبعه التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض.