عبدالمنعم سعيد
الرئيس عبدالفتاح السيسى كان الأول بين رؤساء مصر الذى طالب بتجديد الفكر الديني، ودعا إلى «ثورة دينية» تجعلنا نتغلب على التطرف والعنف. وفى تاريخ الإنسانية فإن تاريخ نهضة الأمم بدأ بإصلاح الفكر الديني، ولكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد واكبها دعوات لثورة العقل التى تدعو الإنسان إلى التفكر فى مساره الذى تتوافر فيه خيارات مختلفة. ثورة العقل عادة ما يأتى بعدها ثورة التنوير التى تدفع بأفكار تعلى من شأن الجماعة كلها وعلاقاتها مع الطبيعة، ومع بعضها البعض، ومع المحيط والبيئة التى تتعامل معها. كل ذلك يصل إلى ثورة رابعة هى العلم الذى يسعى إلى اكتشاف القوانين والسنن والطريقة التى يمكن بها إدارتها والتحكم فيها. فى كل ذلك يخرج الإنسان من كونه مجرد شاهد على مسيرة جاءت مع ميلاده وتنتهى يوم موته إلى مشارك أساسى فى هذه العملية، وكانت النتيجة هى ما نشاهده اليوم من تقدم نجم عن ثورات زراعية وصناعية وتكنولوجية متعاقبة تزايدت سرعاتها بحيث إن التغيير الذى كان يحتاج ألفية، بات ممكنا حدوثه فى ساعة.
مصر تحتاج كل ذلك، فرغم ما يبدو من مشاهد التقدم التى تبدو فى ركوب الطائرات، ومشاهدة التليفزيونات، واستخدام التليفون الجوال والكمبيوتر وحتى ارتفاع معدل العمر، فإنه لا يوجد ما يدعو إلى أننا نسير على الطريق الذى تتمكن فيه عقولنا من تغيير مسارات التخلف. ولا يحتاج الأمر كثيرا من البرهنة لمشاهدة الحالة التواكلية والفهلوة التى تتحكم فى تحركاتنا، والأخطر التكيف مع واقع صعب بالفقر، أو بالقمامة على أساس أن كل ذلك قضاء وقدر. ما يشيع فى بلادنا من شعوذة وحديث عن السحر والأعمال السفلية لا ينتشر بين الجهلاء، أو غير المتعلمين، وإنما بين متعلمين، ومن هم من حيث المنصب والنفوذ ينتمون إلى الطبقات العليا نفوذا أو مالا وتعليما. «النخبة» التى توصف كذلك لأنها المؤهلة لثورات الإصلاح والعقل والتنوير والعلم تتبادل فيما بينها الأدعية والأحجبة والبركات السفلية والعلوية التى تشفى أمراضا مستعصية وتزيل الهم والكدر. المذهل فى حالة النخبة هذه أن أغلبها يكاد لا يحس ليس فقط بما يجرى فى العالم، بل بما يجرى فى الجوار القريب. دولة الإمارات العربية المتحدة عندما قررت إقامة مدينة على كوكب المريخ خلال قرن، أو أنها قررت عمل وزارة للذكاء الصناعى لم تكن تفعل ذلك على غرار إقامة برج لا مثيل له فى العالم، وإنما لأنها تؤسس أو تشارك العالم فى تأسيس العلم القادم فى قرن. هى حالة مستقبلية لا تتعلق بالماضي، ولا تتشبث بالتخلف باعتبارة نوعا من الأصالة.
فى البُعاد كنت أشاهد الكثير من البرامج التليفزيونية، وفى واحد منها كان أحد المذيعين يتعامل بحذر شديد مع ما قاله أحد رؤساء الأندية عن ممارسة السحر من منافسيه حتى يفوزوا بالمباريات. وعندما تشكك أحد المعلقين فى دور السحر فى الهزيمة، فإن آخر رد فورا أليس «السحر» فى القرآن، قال الآخر نعم، فقال الأول انتهى الأمر. هذا نوع من النقاش لا يليق ببلد فى القرن الحادى والعشرين فلا أحد يتفكر فى خلق السموات والأرض، ولا أحد يجد قيمة فى بحث القوانين والسنن، وأحيانا التغلب عليها كما حدث مع «الجاذبية» التى تمت مقاومتها بالدفع حتى الخروج منها إلى خارج الكوكب. ولا ينافس الشعوذة والسحر إلا نظرية المؤامرة الشائعة بقوة شديدة داخل الدوائر «المدنية» للنخبة حيث تنتفى الإرادة الإنسانية تماما لأنه بدلا من العفاريت والجان والسحر توجد «مؤامرة» لا تجد غيرنا من دون خلق الله لكى تؤذينا، أما اليابانيون والصينيون والسويسريون، ومن هم فى مقامهم والمباركون فى مجموعهم فإنه قد تم إعفاؤهم من لعنة التآمر.
آخر أنواع المؤامرات التى قرأتها من كاتب «مرموق» كان تفسيره للحرب على العراق والحرب على الإرهاب وأخيرا إشعال الموضوع النووى الإيرانى مرة أخري، هو أن الدول الغربية تريد اعتصار دول الخليج للحصول على أموالها. الدليل على ذلك هو ما صدر عن قمة الرياض القريبة باتفاقيات تسليح بلغت 110 مليارات دولار؛ ولما كان تنصيب إيران شريرا جديدا فى الجوار الشرق أوسطى فإننا ندخل فورا إلى الصفقات الجديدة. هنا فإن المتآمر عليه يتمتع دوما ببلاهة غير عادية، والدولة «البعبع» ـ إيران الآن ـ هى الضحية، ولا يوجد لها لا قوات حرس ثورى ولا حشد شعبى فى العراق وسوريا، ولا حزب لله يأتمر بأمرها، أما ما يقوم به الحوثيون فى اليمن فإن أموالهم وأسلحتهم ومعاشهم يأتى من مصادر القمر. الطريف أن المعلومات المنشورة فى الولايات المتحدة عن صفقة 110 مليارات دولار كان أنها لم ينفق منها سوى مليار واحد ثمنا لذخائر جرى استهلاكها فى الحرب اليمنية، أما البقية فإنها تحتاج سنوات كثيرة لتنفيذها، أو عدم تنفيذها، لأن معظمها هو مجموعة مذكرات تفاهم ورسائل بالنوايا على أسلحة بعضها لم يتم إنتاجها بعد، وبعضها الآخر لا يزال فى دور التصميم، وبعضها الثالث هو تنفيذ لاتفاقيات جرى إبرامها، وأعيد الحديث عنها وإدراجها فى الصفقة حتى تكون كبيرة إعلاميا!.
المؤامرة هى ما تجعل مصر على حالها، وهى التى تجعل الشرق الأوسط مشتعلا، وباختصار شديد الإنسان لدينا ليس لديه إرادة مستقلة. وما بين شعوذة العامة، وسحر ومؤامرة النخبة، فإن الأمر كله يصبح أكبر من تجديد الفكر الدينى الذى ينبغى أن يمتد إلى تجديد الفكر المدنى لدى هؤلاء الذين وظيفتهم الثورات الفكرية والعلمية. من أين نبدأ حتى نغير ذلك كله، هناك الطريق الطويل نسبيا للتعليم الذى يأتى فيه المنطق والتفكير العلمي؛ ولكن هناك الطريق الأقصر وهو الإعلام الذى لا بد وأن تكون فيه إرادة صارمة لبث التفكير العلمي، وما قنوات «ديسكفري» و«العلم» و«التاريخ» وحتى «الطقس» وأفلام الخيال العلمى إلا سبلا مختلفة لبث فكر الإصلاح والتنوير والعلم.
التعليقات