إياد أبو شقرا

 في لبنان، المُصادَر القرار والمحتل الأرض، انتهى كابوس بالنسبة لكثيرين... واقترب شفير الهاوية الإقليمي بالنسبة للبعض الآخر.

لبنان اليوم حقاً بصدد «14 آذار» جديدة، ضد «الهيمنة الإيرانية» المباشرة، ضد «الأصل» هذه المرة...، بعدما كانت سابقتها ضد «الوصاية الأمنية السورية» التي كانت «الظل» لا أكثر.
كثيرون يرون استقالة سعد الحريري من رئاسة «حكومة - غطاء» خطوة في الاتجاه الصحيح، بل ربما جاءت متأخرة، بما أن كل ما كان مطلوباً منها أن «تبصم على بياض»، بلا سؤال أو اعتراض. هؤلاء يعتبرون أن رئيس الوزراء المستقيل استهلك مقداراً لا بأس به من صدقيته في الشارعين الوطني والسنّي تحديداً، واستكان طويلاً أمام الجهود الحثيثة الهادفة إلى «إحراقه» و«إغراقه» عبر جرّه وجرّ القيادات العسكرية والأمنية للقبول بالهيمنة السياسية والأمنية الإيرانية، وأن يكون الجيش اللبناني قوة رديفة لميليشيا مذهبية تتحرّك بقرار خارجي، ووفقاً لأهداف خارجية.


في المقابل، ثمة جهات استمرأت المقاربات السلبية والانتظار العبثي، ولو كان على حساب هوية لبنان ومصالحه العربية، بل، وتركيبته الديموغرافية. وخلال الفترة الماضية أقنعت هذه الجهات نفسها بأنه يمكن الردّ على التمدّد الإيراني بالاكتفاء بالدبلوماسية، والاسترضاء تحت الابتزاز بالسلاح الذي استخدم غير مرة داخل لبنان وخارجه.
غير أن كلام مستشار «المرشد الأعلى» علي أكبر ولايتي في بيروت، بالأمس، لدى اجتماعه بالحريري، كان أوضح تعبير عن التعاطي الفوقي مع لبنان كامتداد للهيمنة الإيرانية على جنوب العراق ومناطق واسعة من سوريا، وصولاً إلى البحر. لقد أسقط الحكم الإيراني، بمزيج من مناورات حسن روحاني وجواد ظريف وميليشيات محمد علي جعفري وقاسم سليماني: «الحدود» التي رسمها المجتمع الدولي ففصلت العرب... وحلم «العروبيّون» منذ 1920 بإسقاطها. فبجهود «داعش» (ومَن يقف وراء «داعش») وميليشيات إيران الطائفية ما عادت هناك حدود بين العراق وسوريا، ولا بين سوريا ولبنان، وانفتحت الطريق من قلب إيران إلى سواحل سوريا ولبنان على المتوسط. وكلام ولايتي في بيروت – أمام من يفترض بهم أنهم مؤتمَنون على «دولة» و«سيادة» في لبنان – أكد واقع المشروع الإيراني الإقليمي كله، وليس احتلال لبنان وحده بسلاح «حزب الله».


الآن، ثمة سؤال جوهري مطروح هو... ماذا بعد؟


على المستوى اللبناني الداخلي، أعتقد أن سعد الحريري فعل ما يفرضه عليه دوره الوطني أولاً كزعيم لبناني يؤمن بلبنان سيد ومستقل، وثانياً كزعيم مسلم سنّي في فترة استهداف علني واستتباعي للعرب السنة في العراق وسوريا ولبنان.
القرار، لا شك، صعب، وبالأخصّ أن الساسة اللبنانيين – ومنهم الحريري نفسه – دأبوا طوال السنتين الأخيرتين على التحذير من مخاطر «الفراغ» السياسي. ومن ثم، اعتبار أي مَخرج سياسي أقل ضرراً من استمرار هذا «الفراغ». غير أن ما حصل منذ التوافق على إسناد رئاسة الجمهورية للعماد ميشال عون وتشكيل «حكومة وفاقية» يرأسها الحريري ويتمثل فيها «حزب الله»، هو أن «السيناريو» الأسوأ لـ«الفراغ» تحقّق سلمياً بلا سلاح.
لقد حظي النفوذ الإيراني داخل لبنان في ظل رئاسة عون و«حكومة الوفاق» بغطاء «شرعي» وبقبول اضطراري من ممثلي معظم الطوائف الدينية. وجوبهت ظاهرة النزوح السوري بنظرة عدائية أحادية تركّز على عبء الاستضافة وتجاوزات النازحين الفردية بمعزل عن تحميل مسؤولية النزوح إلى القوى الداخلية - تحديداً، «حزب الله» - التي تسببت به عن طريق قتالها في سوريا دعماً لنظام بشار الأسد من دون تفويض حكومي أو شعبي لبناني. ومورس ضغط لجعل «العقيدة القتالية» للقوات المسلحة وقوى الأمن «نسخة طبق الأصل» تقريباً للأولويات العسكرية والأمنية لـ«حزب الله»، الذي هو جزء لا يتجزأ من الحرس الثوري الإيراني. وأخيراً لا آخراً، جرى «تقزيم» رئاسة الحكومة والالتفاف عليها تكراراً، ولعل الحدث الأبرز على هذا الصعيد كان تجاوز جبران باسيل، وزير الخارجية وصهر رئيس الجمهورية، الإجماع الحكومي وشخص رئيس الحكومة باجتماعه علناً بوزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في نيويورك.
في ظل احتكار «حزب الله» السلاح وتمكّنه من اختراق المسيحيين بتحالفه مع تيار عون، الذي أمّن له غطاءً سياسياً ودينياً مهماً شعاره غير المعلن «تحالف الأقليات»، حققت «حكومة الوفاق» معظم ما أراده الحزب من دون تقديمه تنازلاً واحداً، بدءاً من الجدل حول «قانون الانتخابات» وانتهاءً بموضوعي عرسال والحرب في سوريا. وبالتالي، وفّر التوافق المزيّف أو المغيّب على الحزب الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية لفرض مشيئته، وتشديد قبضته على البلاد.
استقالة سعد الحريري سحبت الغطاء من حالة شاذة ما كان من مصلحة لبنان، ولا مصلحة الحريري نفسه، أن تستمر. لقد فعل رئيس الحكومة باستقالته ما كان عليه فعله لإنهاء حالة «ملء الفراغ بمثله»، وباتت الكرة الآن في الملعب الأوسع. في الملعب الإقليمي.
لبنان، كائناً ما كان يظل حلقة صغيرة من حلقات المنطقة. واستقالة رئيس حكومة رفض أن يكون غطاءً لمشروع هيمنة إقليمي خطوة مهمة في اعتراض سبيله، إلا أنها في حد ذاتها خطوة غير كافية، ولن تؤتي أكلها ما لم يكن هناك جدية في مستوى أعلى للتصدي لهذا المشروع.
لقد تعرّض الحريري لانتقادات كثيرة خلال هذه السنة، وها هو تصرّف وبشجاعة. فهل سيدعم موقفه الآن أولئك الذين تتعالى أصواتهم ضد سياسات طهران وأطماعها ومشروع هيمنتها المترجم على الأرض في ترسانات أسلحتها داخل إيران ومناطق انتشار ميليشياتها في ديار العرب؟
هل ستكون هناك جدّية عند المجتمع الدولي للتعامل مع شرق أوسط بلغ احتقان العداء فيه درجة الغليان؟
وهل ثمة تفهّم لخطر السماح لآيديولوجيات متطرّفة تتستر بالدين بأن تفرض وجودها على منطقة حساسة من العالم، تتداخل فيها الهويات العرقية بالهويات الدينية والمذهبية، ولا تبتعد كثيراً عن وسط أوروبا؟
عام 2005، عندما انتفض اللبنانيون ضد «الوصاية الأمنية» المرتهنة للخارج، تحمّس المجتمع الدولي بسرعة... ثم تناساهم بسرعة أكبر.
الخوف كل الخوف أن يكون هذا مصير انتفاضتهم الثانية.