عدنان كريمة

على رغم تفاؤل لجنة الاقتصاد والاستثمار البرلمانية في بغداد بأن تكون موازنة العام المقبل «أقل تقشفاً» من العام الحالي بعد القضاء على عصابات «داعش»، واستعادة السيطرة على آبار النفط في كركوك ونينوى والإقليم، فإن هذه الموازنة تحمل عجزاً بنحو 20 بليون دولار، يغطى من طريق الاقتراض من الخارج، ما يغرق العراق بمزيد من الديون التي تجاوزت «الخط الأحمر»، وأصبحت تهدد بأخطار مالية واقتصادية واجتماعية، تحد من جهود التنمية وتعرقل تنفيذ مشروع إعادة الإعمار.

واجه العراق أخطاراً على مستوى الأمن والمؤسسات، هي الأعلى بين كل الدول السيادية. وكنتيجة طبيعية لتدهور وضعه المالي، تراجع تصنيفه الائتماني الى درجة «سالب» ما أفقده ثقة دولية، أدت الى فشله في محاولات كثيرة للاقتراض بإصدار سندات يطرحها في الأسواق العالمية، بسبب كلفتها المرتفعة، لكنه نجح بعد ذلك بالحصول على قروض عدة، بدعم من الولايات المتحدة والبنك الدولي، وبعد خضوعه لشروط قاسية فرضها عليه صندوق النقد، أهمها: إصدار قانون للإدارة المالية، وإدخال هيئة النزاهة كطرف فاعل في المتابعة المستقلة لإنفاق الدولة، واعتماد وثيقة الأمم المتحدة بمكافحة الفساد، منع تهريب العملة الأجنبية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتقييد وزارة المال بأسس جديدة وإخضاع الديون الخارجية والداخلية للتدقيق.

بدأ الصندوق مساعدته للعراق بموافقته في العام الماضي على قرض قيمته 5.34 بليون دولار، لتنفيذ سياسات اقتصادية ومالية تساعده على مواجهة انخفاض أسعار النفط ونتائج تداعيات أعباء الحرب، وقدمت مجموعة البنك الدولي حزمة تمويل بنحو 1.5 بليون دولار لدعم الإصلاحات التي تنفذها حكومة بغداد لتحسين تقديم الخدمات العامة وتعزيز الشفافية ونمو القطاع الخاص، وبذلك ترتفع محفظة استثمارات البنك في العراق الى نحو 3.4 بليون دولار. ووقعت حكومة الولايات المتحدة اتفاقاً مطلع العام الحالي، حصلت الحكومة العراقية بموجبه على قرض قيمته بليون دولار، بإصدار سمّي «دجلة» وبضمان أميركي وبفائدة مخفضة. وقد سهل كل ذلك دخول العراق أخيراً الى أسواق المال العالمية بعد إصداره السند السيادي الخارجي باسم «الفرات» ومدته تزيد على خمس سنوات، وهو مضمون من الحكومة العراقية فقط. ولافت أن هذا الإصدار شهد إقبالاً كبيراً ، وتنافست عليه 350 شركة من شركات الاستثمار العالمية، مسجلاً رقماً قياسياً بلغ 12 بليون دولار، فيما وصل حجم طلبات الشراء الى نحو 6 بلايين دولار. واعتبر هذا النجاح خطوة مهمة تشكل منفذاً تمويلياً يحظى به العراق، ويساهم في تمويل العجز المزمن لموازنته، فضلاً عن تحريك النشاط الاقتصادي، ما يشجع رجال الأعمال والمستثمرين على الدخول بقوة في المشاركة بتمويل مشاريع إعادة الإعمار وتنفيذها.

وهكذا يشهد العراق تدفقاً كبيراً للقروض من الأسواق العالمية ومؤسسات التمويل الدولية، وهي تعتمد على قدرته على الوفاء بالتزاماته المالية في مواعيدها، وهو دولة غنية على مرّ التاريخ، وعملاق نفطي في المنطقة، ويأتي في المرتبة الثانية في «أوبك» بعد المملكة العربية السعودية، ويقدر احتياطه المثبت بنحو 150 بليون برميل، ويشكل ثالث أكبر احتياط للنفط التقليدي في العالم بعد السعودية وإيران، وفيه فرص واعدة للاستثمار، وجاذبة للمستثمرين العراقيين والعرب والأجانب. وقد أثبتت السنوات العشر الممتدة من بدء الاحتلال الأميركي حتى نهاية عام 2013، قدرة العراقيين على التكيف مع التطورات الأمنية والسياسية، ولوحظ أن العام الأخير من تلك الفترة (أي عام 2013) سجل نمواً اقصادياً «قياسياً» بلغ 9 في المئة، ولكن الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي تدهور بدءاً من عام 2014 مع احتلال «داعش» مناطق واسعة واستثمار مواردها، ونزوح عدد كبير من السكان، ما أحدث خللاً كبيراً في التوزيع الديموغرافي، إضافة الى هروب أموال الى الخارج، وتعطيل عدد كبير من المؤسسات، وهدر في المال العام، وفساد شمل مختلف مؤسسات الدولة.

وإذا كان صندوق النقد الدولي يساعد العراق في حل أزمته المالية بالقروض، فإنه حذره في الوقت ذاته من تفاقم مشكلة الفقر، إذ تبين أن ثمة أربعة أشخاص فقراء بين كل عشرة نازحين، وأن حصة الفرد من الناتج الإجمالي انخفضت من سبعة آلاف دولار الى أربعة آلاف دولار سنوياً، كذلك تفاقمت البطالة التي بلغت نسبتها أكثر من 25 في المئة.

ومع اعترافها بفشل القطاع العام، تهتم الحكومة العراقية بوضع استراتيجية وطنية تمتد لخمس سنوات من 2018 حتى 2222، وتقضي بتطوير القطاع الخاص لمعالجة مشكلة الفقر، بمشاركة مع البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة اليونيسف. ولكن، إضافة الى الإرادة السياسية وأهميتها في القرارات التنفيذية، فإن خطة التطوير تتطلب إنفاق مبالغ كبيرة واستثمارات ضخمة في مشاريع متعددة ومتنوعة، توفر فرص عمل للعراقيين في وقت يغرق العراق بالديون لمواجهة العجز المالي المتراكم في موازنته، مع الإشارة الى أنه سيحصل على قروض بنحو 16 بليون دولار لسد «الفجوة المالية»، وقد بلغ دينه العام 114.6 بليون دولار بنهاية العام الماضي، وينتظر أن يرتفع الى 123 بليوناً نهاية العام الحالي، والى 132.4 بليون في العام المقبل، وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي.