طيب تيزيني 

في هذه الفترة قامت قيامة مجموعات من الداخل والخارج، تأكيداً على أن الأمر السوري ليس أمراً داخلياً، وإنما هو قاسم مشترك مع «الأقوياء». وهنالك قواسم مشتركة تجمع بين السوريين وتقرّب بينهم وبين الشعوب العربية. وقد تحدثنا، ويتحدث معنا البعض من أصحاب الأقلام العربية الآخرين، باتجاه ما يُعرف بكونه مواقف وطنية وقومية مشتركة. ومن ثم، فقد انطوى ذلك على ثوابت بين العرب تؤكد ما يجمع بينهم.

وحيث يكون الأمر كذلك، فإن ما يعلنه البعض بين فينة وأخرى، من بقاء قواتهم العسكرية التابعة لإيران، يمثل خروجاً عن الثوابت الوطنية والقومية، إن الأحلام الإمبراطورية التي تراود مجموعات سياسية وعسكرية بالهيمنة الإيديولوجية والسياسية، إنما هي «أضغاث أحلام» مخالفة للتاريخ وللوقائع العلمية. ومن ثم، فإن الاعتقاد بأن إعادة السلم في المنطقة المشتعلة عندنا يمكن أن ينتهي إلى المشروع الإيراني، إنما هو اعتقاد واهٍ ومخالف لمعطيات تاريخ المنطقة. وبالأساس، لا تصحّ المراهنة على استبدال التاريخ العربي (الإسلامي) بالتاريخ الإيراني الفارسي، فمثل هذه المراهنة لم يصل إلى القول بها حتى «المستشرقون» بمختلف توجهاتهم وأديانهم.

إن الدخول في اللحظة الجديدة من الصراع القائم في المنطقة العربية، لا تعود إلى لحظة «الآخر»، ذلك لأنها لحظة عربية بامتياز بمكوناتها وبنياتها ونتائجها. وبتعبير أكثر وضوحاً، لا يمكن القول بأن مصائر ما يجري حتى الآن في العالم العربي، وضمن النسيج العربي، مصائر يمكن أن تفضي إلى استبدال الشعوب بالطوائف، فإن هذا لا يستقيم لا بالاعتبار التاريخي، ولا بالاعتبار البنيوي، فأولئك ليسوا من نمط هؤلاء، وهذا ما لاحظناه في الأوقات السابقة، حيث كثر الحديث عن الطوائف بدلاً من الشعوب. وأنتج هذا المعطى الجديد حالة جديدة، هي إكساب الطوائف دلالات الشعوب بحيث صار الحديث عن طائفة الشيعة، مثلاً، وكأنه مماثل للحديث عن الشعب الإيراني، والحديث عن طائفة السنة مماثلاً للشعب العربي.. إلخ.

ومن هنا بالذات تكتسب المسألة دلالة على خلط هذا بذاك، ومفهومٌ أن ذلك الخلط لا يمثل مسألة نظرية منهجية فحسب، وإنما قد يحدث أيضاً حالة مركبة جديدة، إضافة إلى أنه سينسحب على المسائل والمشكلات الأخرى، منتجاً حالة من الاضطراب في العلاقة بين منظومات الشعوب والطوائف والفئات. وحين تصل المسألة إلى هذه الحالة، فإننا نكون قد دخلنا نسقاً جديداً من المفاهيم والعلاقات والدلالات يمكن أن يطلق عليها ذلك التعبير التراثي: «حالة حيص بيص»!

وهنا، نكون قد اقتربنا من مرحلة التصدّع، إن إنهاء الصراع الذي استمر أكثر من ستة أعوام في منطقتنا على هذا النحو، قد يكون بداية لصراع أو صراعات أخرى جديدة، ما قد يضعنا أمام مشكلات ومصائب أخرى جديدة أكثر تعقيداً وخداعاً للباحثين والعاملين على الوصول إلى «مسك الختام».

وإذا أتينا على ما تم الاتفاق عليه بين سوريا وروسيا من اتفاق يمتد لنحو خمسين عاماً تتيح لروسيا تحقيق مصالح استراتيجية خاصة بها، فإن تأثيرات ذلك ستطال رغبات الآخرين في التأسيس لمصالح لهم من حقل أو آخر. وحيث يتم ذلك، فإن الباب يكون قد فُتح للتدخلات، ما قد يخلق حالة جامحة من نمو مصالح أولئك وغيرهم لآماد طويلة، تجعل الاستقلال السوري قابلاً لإنتاج نقيضه. ويكون ذلك، من ثم، حالة انكشاف قد فُتحت، أما إغلاقها والعودة إلى الاستقلال الوطني فهذا أمر ما لا حساب له ولا تقدير!

وإذ نكون قد وصلنا إلى هذا الحد الساخن والقابل للتعاظم بل كذلك للانفجار، فإن مراجعته وإعادة النظر فيه تدقيقاً واستيعاباً، تصبحان أمراً يتطلب الإصرار عليه من باب الحكمة والرغبة في درْء المصائب قبل حدوثها. فقد كان عنوان هذه المقالة ينطوي على فكرة الحذر من تصدّع محتمل للموقف الراهن، الذي يواجهنا، ومن هنا، كان التأكيد العميق على الحذر من الوقوع في أخطاء ذات طابع حاسم يمكن أن يقلب طاولة الحل رأساً على عقب، مع الإشارة الحاسمة إلى أن أطرافاً كثيرة من اللاعبين في الخارج والداخل سيجدون أنه من مصالحهم أن تسير الأمور بعكس ما ينبغي!

إنها ما يزيد على ستة أعوام من الأحداث المأساوية، التي ربما ستكون تكلفتها حالة فريدة من القسوة والتدمير لوطن أسهم إسهاماً فعلياً وعميقاً في بناء التاريخ. ومن هذا الباب، فإن سوريا العربية بقدر ما تفتح أبواب حيطانها عبر العالم العربي والعالمي كله، فإنها تدرك وتعلم ولا تنسى أنها عربية وذات أفق إنساني عالمي يسعى إلى التوافق مع الجميع من باب الاستقلالية والكرامة والتآخي مع البشر عموماً. سنحاول أن نجعل ما مرّ على سوريا دفتراً من الذكريات المريرة، ولكن المكتنزة في دلالاتها التاريخية العميقة والبنّاءة.