نوال السعداوى
شهدت منذ طفولتى هزائم متكررة لبلادنا فى مواجهة قوى بريطانية فرنسية إسرائيلية أمريكية، تجمعت تحت اسم الأمم المتحدة داخل مبنى شاهق بمدينة نيويورك، يشهد كل عام مؤتمرات سلام وشراكة وتعاون وديموقراطية، تتضاعف بعدها الدكتاتورية والحروب المتطورة بأسلحة دمار شامل وتكنولوجيا التجسس والقتل بالريموت، لم نعد نرى القتلة، فقط المقتولين وأجسامهم المتفحمة بالنار الذرية أو الهيدروجينية أو النووية الأشد لهيبا من جهنم.
قال المدرسون فى طفولتنا إن نار جهنم صنعها الله ليحرق من لا يؤمنون بالله والرسول، أما نحن المسلمين فسندخل الجنة، وفى مقدمتنا الملك الصالح، يدعو له مشايخ الأزهر من فوق المنابر أن يحفظه الله للأبد حاكما للبلاد، وكانت الذات الملكية مقدسة تعلو فوق النقد مثل الذات الإلهية وأكثر.
بعد سقوط الملك تحولت الذات الملكية الى الذات الجمهورية، وبعد احتلال إسرائيل لأرض فلسطين ارتفعت الأصوات من فوق المنابر تدعو الله أن يحرق إسرائيل، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة الحليف الأكبر لإسرائيل تصاعد الهتاف «تسقط إسرائيل وأمريكا»، لكنهم لم يسقطوا، بل تضخمت قوتهم وتوحشوا، رغم انتهاكهم المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن ومباديء الأديان والقيم الإنسانية والأخلاق، وإستمروا فى قتل الشعب الفلسطينى واحتلال أرضه تنفيذا لوعد الله لهم فى التوراه، وأخيرا صدر قرار «دونالد ترامب» بنقل السفارة الأمريكية الى القدس، وكله بأمر الله.
كان «أمر الله» هو السلاح الأقوى فى الحروب منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض حتى يومنا هذا, وهو سلاح «مراوغ» مثل كلمة الديموقراطية والعلمانية، وقد أعلنت إسرائيل مؤخرا أنها «دولة يهودية» لمجرد الإحتفاظ بالأرضى المحتلة، وإحتلال المزيد من الأراضى من النيل الى الفرات، كما ورد فى الكتاب المقدس.
رغم ما نشهده من هزائم متكررة، وما نعانيه من ضربات متتالية من إسرائيل والقوى الإرهابية التى تقتل وتنهب باسم الله، رغم الدعاوى المستمرة لتجديد الفكر الديني، إلا أننا فشلنا فى كسر القوقعة، التى يقبع داخلها عقلنا المقهور المستسلم للأمر البشرى المستتر تحت أمر الله.
فى المدرسة كان أخى يسقط فى الامتحان، ويقول إن الله أراد له السقوط ، ولو أراد الله له النجاح لنجح ، وإذا نجح رغم إرادة الله سيدخل النار، وكان أبى يعرف أن أخى يكره المدرسة ولا يذاكر الدروس، ويتهرب من مسئولية سقوطه ويلقيها على الله، ويقول أبى لأخي: لا تراوغ مثل «معاوية» الذى كان يقول لمن يتهمه بظلم الناس «يريد الله ما أفعله، و«لو كره الله ما أفعله لمنعه»، أدركت منذ تلك اللحظة كيف يرتدى الظلم السياسى قناع «إرادة الله»، وأصبحت أرفض أى شيء يفرض على باسم أمر الله، وكان أبى وأمى يشجعانى على ذلك منذ طفولتي، أصبحت أحترم عقلى القادر بالحوار والإصرار، أن يفرض إرادتى الحرة على أى إرادة تحاول السيطرة علي، لكن إحترامى لعقلى وإرادتى أصبح «جريمة» فى نظر القوى المسيطرة فى الدولة والدين والعلم والطب والأدب والثقافة وغيرها.
كان واضحا لى أن السلطة السياسية العليا تتحكم فى كل شيء ثم تتخفى وراء أمر الله، وأصبحت هدفا للهجوم الضاري، والإتهامات الخطيرة، أقلها «الكفر» وعدم الإيمان بالقضاء والقدر، وكان السادات، رئيس الدولة حينئذ، قد أعطى نفسه لقب «الرئيس المؤمن» وأصبح حاكما بأمر الله، تحت إسم الديموقراطية ، يشجع القوى الدينية السياسية، ويزج بالسجون المعارضين له، والمشايخ من حوله يشيعون أن حجاب المرأة هو أمر الله، والقيم الظالمة المفروضة على النساء هى شرع الله، ومنها تعدد الزوجات وتزويج القاصرات وعمليات الختان واستبداد الأب فى الأسرة، وغيرها من العادات الموروثة منذ العبودية، والتى أصبحت سائدة فى بلادنا، تحاصر العقل داخل قوقعة الجمود والخضوع لكل محاولات القمع والاستعباد المتخفى وراء الدين، بهدف إستلاب إرادتنا الحرة، واختيارنا لأفعالنا، ومسئوليتنا عن سلوكنا فى حياتنا العامة والخاصة، وإضعاف إرادة الشعب وقدرته على الثورة وإسقاط النظام الظالم، ومنذ سبعة أعوام تجمعت الملايين فى ميدان التحرير، وأسقطت مبارك، لكن القوى الدينية السياسية أشاعت أن «إرادة الله» هى التى أسقطته، وكان هدفهم إجهاض الثورة، واستلاب إرادة الشعب وإعادة العقل الى القوقعة.
التعليقات