إدريس لكريني

لم يحظ انتخاب رئيس أمريكي سابق بنفس الاهتمام والجدل اللذين خلفهما وصول الرئيس «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض داخليا وخارجيا؛ ويجد هذا الجدل المتراوح بين الحذر والترقب والتخوف أساسه في مجموعة من العوامل والاعتبارات.

فالولايات المتحدة التي فرضت نفسها كقطب دولي وازن في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ تملك كل المقومات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية الكفيلة بترجمة البرامج والسياسات المعتمدة؛ ميدانياً، كما أن المصالح القومية للدولة تتبدّل وتتغير باستمرار انسجاماً مع التحولات التي تطرأ داخلياً وخارجياً؛ بما يفرض تطوير آليات تنفيذ هذه المصالح وأولوياتها؛ حيث تبدو السياسة الأمريكية أكثر واقعية وتقلباً في هذا الصدد.

كما أن التراجعات التي طبعت الأداء الأمريكي داخلياً وخارجياً خلال السنوات الأخيرة؛ سواء على مستوى تداعيات الأزمة المالية؛ أو كلفة التدخلات العسكرية الخارجية؛ وتمدّد بعض القوى الدولية الكبرى سياسياً واقتصادياً؛ كما هو الشأن بالنسبة لروسيا والصين.. كلّها عوامل تبرز هاجس الزعامة الأمريكية والرغبة في إطالة أمد القطبية الأمريكية دولياً ضمن أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة..

يأتي وصول «ترامب» إلى رئاسة أمريكا في ظروف داخلية تحيل إلى مجموعة من التراجعات؛ ما جعله يؤكد الأولويات في ارتباطها بالتعليم والصحة وتطوير البنيات التحتية ودعم القوة الاقتصادية لأمريكا؛ كما أنها تأتي في خضم تحولات ومتغيرات دولية وإقليمية معقدة؛ من حيث تنامي المخاطر الدولية الناجمة عن تمدّد الإرهاب وتزايد المخاوف بشأن تلوث البيئة؛ وتسارع الأزمات الدولية والإقليمية؛ كما هو الأمر بالنسبة للأوضاع في سوريا وليبيا واليمن؛ وتعقد الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة بفعل تجاهل وتنكّر الطرف «الإسرائيلي» لالتزاماته السابقة..

حقيقة أن السياسات الأمريكية في ظل الإدارة السابقة؛ لم تكن أقل حدّة أو أفضل مما طرحه «ترامب»؛ خصوصاً إذا ما تمت مقارنة الشعارات والمزاعم التي أطلقها الرئيس المنتهية ولايته «باراك أوباما» في ارتباطها بدعم الديمقراطية في المنطقة العربية؛ وتشجيع الحوار بين الحضارات؛ ومكافحة الإرهاب؛ والسعي لبلورة حل عادل ودائم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني - «الإسرائيلي» عبر التشجيع على قيام دولتين.. فنّدها واقع الممارسات الميدانية.. غير أن ما ميزّ خطابات ترامب في هذا الشأن؛ هو طابعها المباشر والمثير؛ خصوصاً أنها جاءت عارية من النبرة الدبلوماسية في كثير من الأحيان..

رغم أن التقييم الموضوعي لأداء الرئيس «ترامب» الذي تولى مسؤولياته قبل أيام؛ يظل مستحيلاً وصعباً في هذه المرحلة؛ غير أن ثمة مجموعة من المؤشرات التي يعتمد عليها الكثيرون في التأكيد على أنه ماض في تنفيذ مجمل السياسات التي طرحها ضمن حملته الانتخابية والتي أثارت نقاشات وردود فعل حادّة في الداخل الأمريكي أو على الصعيد الخارجي..، فقد وقع على قرارين؛ أولهما يقضي بفرض قيود مؤقّتة على دخول مواطنين يحملون جنسيات سبع دول إسلامية إلى التراب الأمريكي؛ وثانيهما ينصّ على بناء جدار على طول الحدود مع المكسيك في إطار مقاربة صارمة لظاهرة الهجرة..

رفع الرئيس الأمريكي الجديد شعار «أمريكا أولاً»؛ و هو شعار يحيل إلى مدلولين في نظر الكثير من الباحثين والمهتمين. فهناك من يعتبر أن الأمر طبيعي ولا يختلف فيه «ترامب» عن بقية الرؤساء السابقين؛ لكونه شعاراً تفرضه التراجعات الأمريكية التي حدثت في الآونة الأخيرة؛ وحجم التحديات التي تواجه أمريكا خارجياً، وهي التراجعات التي برّرها الرئيس بالأخطاء التي ارتكبتها إدارة «أوباما» والتي كانت - بحسب اعتقاده - مكلفة مالياً وسياسياً.. وبين من يعتبر الأمر مجرّد ذريعة تخفي بين ثناياها الرغبة الجامحة في الاستئثار بالرأي والقرار وتبرير السياسات الداخلية والخيارات الحمائية لأمريكا..

خلفت الشّعارات الأمريكية الجديدة تخوّفات جدّية في أوساط الكثير من الدول؛ بما فيها تلك المنضوية في إطار الاتحاد الأوروبي؛ بفعل التوجهات الانعزالية للرئيس الجديد، ففي مقابل حماسته لدعم التعاون مع روسيا والعمل على إلغاء العقوبات المفروضة عليها من قبل أمريكا منذ ضمّها لشبه جزيرة القرم عام 2014؛ ورغبته في تفعيل التحالف مع بريطانيا؛ والتعهد بدعم هذه الأخيرة بكل الوسائل في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي، لا يبدي الرئيس الأمريكي الجديد اهتمامه بالاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا الموحدة وفرنسا؛ حيث تجد دول الاتحاد نفسها أمام واقع يحيل إلى إمكانية تراجع «ترامب» عن توفير المظلّة النووية لحلفائه التقليديين في مواجهة تصاعد الدور الروسي في المنطقة.. مع توجه الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تجاوز كلفة الدعم الذي ظلت تتحمله أمريكا داخل حلف «الناتو»؛ عبر البحث عن سبل جديدة للتعاون؛ ومن خلال بلورة شراكات أمنية ثنائية «مجدية» مع الدول الأعضاء في هذا الصدد..

أما فيما يتعلق بالمنطقة العربية التي تعيش على إيقاع الكثير من الأزمات والصراعات؛ فيبدو أن خطابات الرئيس الأمريكي لم تأت بجديد في هذا الصدد؛ فباستثناء الحديث عن توجه صارم لمكافحة الجماعات الإرهابية؛ وإبداء التخوفات إزاء التمدد الإيراني بالمنطقة؛ والتعهد بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى؛ فالموقف من الأزمة السورية مازال مرتبكاً تم اختزاله في مكافحة الإرهاب؛ دون طرح رؤية شمولية لحل المشكل؛ ونفس الأمر بالنسبة للوضع الليبي والقضية الفلسطينية..