باسم الجسر

يخطئ الساسة اللبنانيون عندما يقدمون المصالح أو الحقوق الطائفية على الديمقراطية البرلمانية التي يقوم عليها نظام الحكم في لبنان؛ فمنذ تأسيس كيانه وبلوغه استقلاله، أدى رفع رايات الطائفية إلى أزمات حادة أو إلى عصيان مسلح بل إلى حرب أهلية... بينما كان سلوك الحوار السياسي الديمقراطي والتمسك بالوحدة الوطنية هما الطريق والأداة للتغلب على الأزمات والمحن، وإلى استتباب الوئام والسلام بين المواطنين.

ويعيش اللبنانيون، اليوم، وبعد عامين من الفراغ أو التعطيل لمؤسسات الحكم الديمقراطي، حقبة وئام وطني - سياسي، تتميز بجلوس الخصوم السياسيين سابًقا، مًعا في حكومة واحدة بعد اتفاقهم على انتخاب رئيس للدولة، وتأليف حكومة اتحاد وطني وتخليهم عن رفع الشعارات الطائفية والمذهبية. ومن حق الساسة والأحزاب اللبنانية شكرهم على هذه النقلة الوطنية وعلى الأخص الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري.

غير أن غيمة سوداء ما زالت عالقة في سماء المرحلة الوطنية الوئامية التي يجتازها لبنان ونعني قانون الانتخابات النيابية الذي يشكل عقدة صعبة التفكيك كونها نابعة من جذور طائفية أو مذهبية. وقد تتحول إلى أزمة تهدد الوئام الوطني والاستقرار السياسي الديمقراطي المستعاد.

صحيح أن قانون الانتخابات النيابية أو الرئاسية يلعب دوًرا أساسًيا في نظام الحكم الديمقراطي. ولكن صحيح أيًضا أنه ليس هناك في العالم قانون انتخابي واحد، مثالي أو صالح أو مطبق في كل الدول التي تبنت الديمقراطية أو تدعي تطبيقها. أو يوفر تمثيلاً أو تعبيًرا صحيًحا مائة في المائة عن رغبات الناخبين أو يعكس أكثرية وأقلية شعبيتين حقيقيتين.

ففي الولايات المتحدة يفوز المرشح لرئاسة الدولة في الانتخابات الشعبية المباشرة بأكثرية أصوات مندوبي الولايات حتى ولو لم ينل أكثرية أصوات المواطنين الناخبين. وفي فرنسا لا يتيح قانون الانتخابات النيابية لحزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف إيصال أكثر من نائب أو نائبين إلى المجلس النيابي، علما بأن الحزب ينال 18 في المائة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية.

عن الأخرى. كذلك هي ما يمكن تسميتها بـ«التقاليد» أو «الأعراف» السياسية الخاصة ببعض البلدان. مثلاً كذلك هو الأمر بالنسبة لنظام المجلسين - أي النواب والشيوخ - فإنه مطبق في بعض الديمقراطيات وغائب بريطانيا التي تحكم منذ مئات السنين من دون دستور مكتوب منذ «الماغناكارتا»، وحيث تطبق الديمقراطية بشكل يتمثل به.

أما في لبنان فلقد حسم اتفاق الطائف جدلاً طائفًيا سياسًيا - وطنًيا كان مستمًرا منذ نشوء الكيان الوطني اللبناني واستقلاله وشكل نقطة انطلاق لأكثر من أزمة حادة كانت الحرب الأهلية أطولها وأقساها، لا سيما فيما يتعلق بديمومة الكيان وعروبته وتوازن السلطات التنفيذية والتشريعية فيه ديمقراطًيا وطائفًيا ومذهبًيا.

ولعل أهم بند في هذا الاتفاق كان الذي ينصفي مقدمته على «لا شرعية أي قرار يهدد الوفاق الوطني» - أي التوازنات الطائفية.
غير أن هذا النص - الذي يفترض به أو منه تحصين الوحدة الوطنية والتفاهم بين الطوائف والمذاهب - تحول، لسوء الحظ إلى أداة لتعطيل اللعبة الديمقراطية أو السلطة التنفيذية أكثر من مرة. ونظًرا لعدم تنفيذ «كل» بنود اتفاق الطائف (أي إنشاء مجلس شيوخ ووضع قانون انتخابات نيابية غير طائفي وتطبيق اللامركزية الإدارية) فإن اتفاق الطائف لم يحل كل مشاكل الحكم في لبنان وما زالت الديمقراطية البرلمانية و«الوطنية الجديدة» معلقة أو هشة في لبنان.

يقول البعض إن الأمور ما كانت لتتعقد وتكاد تدور في حلقة مفرغة لو لم يضغط الواقع العربي الجديد ولا سيما السوري قبل وبعد الربيع العربي، على الجو السياسي في لبنان... صحيح، ولكنه صحيح أيًضا أن بعض السياسيين والزعماء اللبنانيين كان بإمكانهم تلطيف الأجواء والتحاور والتفاهم كما فعلوا مؤخًرا لا أن يربطوا تنازعهم على الحكم بالنزاعات المحتدمة في المنطقة.

نعم، ليس من السهل التوفيق بين الديمقراطية البرلمانية والتوازنات الطائفية والمذهبية، ولكنه ممكن وقد طبق بنجاح في بعض حقبات التاريخ السياسي اللبناني الحديث على يد زعماء وساسة وطنيين حكماء ومخلصين وواعين، نجحوا في إنقاذ الدولة والوطن من المطبات والمحن التي تعرض لها، وأعادوا اللحمة الوطنية بين الطوائف والأحزاب والزعامات العائلية... وهذا ما يؤمله اللبنانيون من العهد والحكومة الجديدين رغم كل العقبات والصعوبات.

لقد جرب اللبنانيون منذ عام 1943 أربعة أو خمسة قوانين انتخابية، بعضها كان منطلًقا لأزمة سياسية - وطنية خطيرة وبعضها مهد لحقبة من الاستقرار والأمن والازدهار. وأًيا كان القانون الذي سوف يتوصل إليه اليوم، فإنه لن يغير كثيًرا في التكوين الحزبي والشخصي للمجلس النيابي القادم. ولن يحول دون تعاون الأحزاب والقوى السياسية والطائفية الملتقية والمتعاونة اليوم.