أمير طاهري

«ديغول اللبناني!»، كان هذا هو اللقب الذي استخدمته الأوساط السياسية الباريسية في وصف العماد ميشال عون حال وصوله إلى فرنسا كلاجئ سياسي في عام 1991.

لا يخلو هذا اللقب من بعض الحقائق كما أنه ليس خيالًيا بالمرة.

على غرار ديغول، كان عون جندًيا، ولكن في حالته كان يحمل نجمة واحدة أكثر من الجنرال الفرنسي ديغول في عام 1940، ولقد خاطر بحياته، فلقد قاد عون المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال السوري بينما أطلق ديغول المقاومة الفرنسية ضد المحتل النازي من ملجئه الآمن في كارلتونِتراس بمدينة لندن.

وعلى غرار الجنرال ديغول أيًضا، ينتمي عون إلى أحد الأحزاب السياسية، ولقد حاول التفوق على الفصائل المتناحرة من خلال التأكيد على ما يوحد وليس ما يقسم الشعب اللبناني.

كما أنه هناك أوجه كثيرة للشبه بين الجنرالين. وفي نهاية المطاف، انتهى الاحتلال النازي لفرنسا عندما تمكنت قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة من سحق آلة الحرب النازية، مما مكن الجنرال لولكير، مبعوث الجنرال ديغول، من المسير إلى باريس منتصًرا.

وفي الحالة اللبنانية، أجبرت الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على الرئيس بشار الأسد طاغية دمشق الحالي على إنهاء الاحتلال السوري في لبنان.

وفي فترة ما بعد الاحتلال، كان العماد عون، على غرار الجنرال ديغول، يستمتع بفترة موجزة من المجد والفخار قبل أن يجري تهميش دوره السياسي على أيدي الفصائل التي مارست السلطة الحقيقية على أرض الواقع في البلاد. وكان على الرجلين قضاء بضع سنوات في صحراء التيه السياسي قبل أن يتمكنوا من ارتداء عباءة الرئاسة من جديد.

وهنا، رغم كل شيء، تنتهي حالة التشابه الماثلة ما بين الجنرالين. فلقد استدعي الجنرال ديغول لتولي القيادة بإجماع الآراء بين مختلف القوى السياسية الفرنسية، من اليمين واليسار، ومن دون أي ضغوط ممارسة من أي قوة أجنبية. ولقد عاد كرمز للوحدة الفرنسية.

وإذا كان أي شيء، فإن كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى كانتا أقل سعادة برؤية الجنرال الفرنسي عائًدا مرة أخرى إلى باريس وذلك لخشية حالة الترافق التمييزي للجنرال الساعي إلى الاستقلال الوطني.

أما العماد عون، برغم ذلك، يدين برئاسته للبلاد إلى الدعم القوي من الجمهورية الإسلامية في طهران، التي استخدمت الفرع اللبناني من تنظيم «حزب الله» الشيعي كمخلب قط جريء في أروقة بيروت السياسية.

ولم يكن الجنرال ديغول مديًنا لأي قوة أجنبية، بينما العماد عون قد أقر في غير مناسبة بدينه المعلق في رقبته وامتنانه العظيم لإيران. أنشأ الجنرال ديغول حزبه بعدما فاز بالسلطة وحشد الدعم الشعبي لدستور البلاد الجديد الذي أرسى دعائم الجمهورية الفرنسية الخامسة.

أما العماد عون، في المقابل، وصل إلى سدة الرئاسة بعدما أصبح قائد الفصيل السياسي الذي، وفق نتائج الانتخابات الأخيرة، حظي بتأييد نحو 11 في المائة من الشعب اللبناني فقط. وأولئك الذين يعرفون مزاج العماد عون، وخصوًصا نظرته الراقية للغاية في رؤيته لنفسه، على انفرد بأدنى تقدير، فإنه لا يستحب حقيقة أنه مدين برئاسته للبلاد لإيران.

وربما أن هذه المشاعر المكبوتة هي التي رغب العماد عون في بثها في غير مرة خلال الاجتماعات التي عقدت مؤخًرا مع عدد من الزوار الأجانب، بما في ذلك الشخصيات السياسية والإعلامية القادمة من فرنسا.

قال أحد الأصدقاء الفرنسيين المقربين منه ومني، والذي التقى به مؤخًرا: «عون هو رجل لبناني وطني حقيقي. وآخر شيء يريده، من أعماق نفسه، هو أن يكون مديًنا لأعدائه السابقين».

يدعي الزائرون أن العماد عون أخبرهم أن هدفه الرئيسي كان استعادة لبنان لكامل سيادته على أراضيه.. فهل يعني ذلك أنه يحاول تهيئة الأوضاع التي تكون القرارات الخاصة بلبنان متخذة من بيروت بدلاً من صدورها من مكتب الجنرال قاسم سليماني في وسط مدينة طهران؟ كان يقال: إن الجنرال سليماني كان أول مسؤول أجنبي بارز يلتقي مع العماد عون لما بثته المصادر المطلعة في طهران بأنه اجتماع بشأن التنسيق الواسع للاستراتيجيات.

ووفًقا لقراءة الواقع المقترحة من جانب صديقنا الفرنسي المشترك، فإن العماد عون على غير استعداد فعلي للمخاطرة بمستقبل لبنان من خلال السماح لبلاده بمزيد من السقوط في المستنقع السوري الدموي على أمل المحافظة على بشار الأسد، رئيًسا لأي قوة معادية كانت، في محل السلطة لفترة أطول قليلاً.

ومن واقع ما نعرفه بالفعل عن العماد عون، والمجريات الداخلية للسياسات اللبنانية، يصعب علينا كثيًرا وضع مهنة الجنرال المتقاعد المحببة إلى قلبه من حبه الوفي لوطنه على ظاهرها. ولم يظهر حتى الآن ما يؤيد المزاعم التي تفيد بأن العماد عون يرغب في أن يكون سيد قراره، أو أنه يريد فعلاً تعزيز الاستراتيجية الوطنية للحفاظ على لبنان، البلد المتكون من فسيفساء كبيرة من الطوائف والعرقيات، بعيًدا عن الحروب الطائفية المنتشرة في ربوع الشرق الأوسط.

وإعمالاً للإنصاف، لم يكن العماد عون على سدة الرئاسة لفترة كافية تمكننا من قراءة نواياه المقبلة على نحو كاف. وعلى الرغم من سنه الكبيرة، فقد يستطيع اللعب جيًدا ولفترة طويلة بما يناقض الوتيرة السريعة العاجلة التي تشتهر بها السياسات اللبنانية خلال السنوات الأخيرة.

ومع ذلك، يمكننا الوقوف على بعض الإشارات المثيرة بالفعل للقلق. فلقد اتخذ الرئيس عون عدًدا من الخطوات الموجهة بكل وضوح نحو تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين داخل وخارج المجتمع الماروني اللبناني.

كما أنه شارك في الخطة الإيرانية الرامية إلى تعزيز القيادة الجديدة الموالية لطهران داخل الكثير من المجتمعات والطوائف اللبنانية.
وجزء من خطة اللعب السياسي التي يعتمدها العماد عون تتمحور حول محاكاة أسلوب الجنرال ديغول من خلال اقتراح استفتاء شعبي.

فلقد عقد الجنرال ديغول أول الاستفتاءات الشعبية من أجل تأمين الموافقة الوطنية على الدستور الفرنسي الجديد ونجح في ذلك بسبب الأغلبية الساحقة من الشعب الفرنسي الذين كانوا يعتبرونه الزعيم الوحيد القادر على إنهاء الحرب في الجزائر وإعادة توحيد الأمة الفرنسية.

مع التركيز على تأمين أكبر قدر ممكن من السلطة، وربما من دون منازع، لنفسه، يأمل العماد عون في فرض النظام الرئاسي من خلال الدستور الجديد. ولكن لبنان ليس فرنسا. الأمة بصورتها الكلاسيكية، إلى جانب الكولبرتية المركزية، متجذرة بأصولها في فرنسا منذ مئات القرون، أما لبنان، رغم ذلك، فهو بلد مدين بوجوده، ومقدرته على مواجهة الكثير من العواصف السياسية العاتية، إلى التنوع الذي ينتج الوحدة الوطنية من دون الانتظام الوطني.

اعتقد الجنرال ديغول أن نظامه الرئاسي يقوم على «التقاء المواطن والأمة»، الأمر الذي نشأ بين عامي 1958 و1968 عندما أجبرت ثورة مايو الجنرال على الفرار إلى ألمانيا الغربية طلًبا للحماية من وحدات الجيش الفرنسي المتمركزة هناك. وفور تلاشي أعمال الثورة المصغرة، عاد الجنرال ديغول، ولكنه أدرك أن الأمور الآن لن تسير على سابق منوالها، فمن ثم قرر إجراء استفتاء آخر لتأمين تأييد جديد آخر لفكرته حول «المواطن والأمة». وعندما خسر هذا الاستفتاء، أدرك الجنرال، التلميذ النجيب لأحداث ودروس التاريخ، أن الوقت قد حان لأن يرحل عن المشهد برمته.

من جانبه، من شأن الجنرال ديغول «اللبناني» أن يخسر أي استفتاء شعبي يجريه في بلاده. وليس من المؤكد على الإطلاق أنه سوف يتمكن من تأمين التأييد حتى من الطائفة المارونية التي يعد هو نفسه ممثلها السياسي الأعلى حالًيا. حتى وإن تلقى الدعم والتأييد من تنظيم «حزب الله»، فلن يستطيع ضمان تعبئة وحشد الطائفة الشيعية اللبنانية وراءه. وبدلاً من تعزيز وترسيخ الوحدة، فمن شأن الاستفتاء أن يسبب حالة من الارتياح «الحاد» لدى الطوائف المنقسمة على نفسها في لبنان حيث من المؤكد أن المسلمين السنة في لبنان سوف يعارضونه من دون شك، ولسوف تشعر طائفة الدروز إلى جانب الشيعة، وربما السواد الأعظم منهم، بعدم الارتياح حول الهيمنة الإيرانية على مقدرات البلاد.

وأفضل رهانات العماد عون، هي عدم محاولة أن يكون «الجنرال ديغول المقبل»، مما قد يجعله يتحول إلى صورة كاريكاتيرية من النسخة الأصلية، ولكن عليه الانتظار ليرى ما سوف تسفر عنه الأشياء في المنطقة التي تجتاحها في الوقت الراهن النزاعات غير المتآلفة والسريعة للغاية.