سمير عطا الله
نلتقي في باريس ولندن وبعض أوروبا، هذه الأيام، أناسًا لم نكن نعرفهم، أو نعرف عنهم شيئًا من قبل، قادمين من دول البلطيق، أو روسًا صاروا يخرجون من بلدانهم بعد سقوط «الستار الحديدي»، كما سمى تشرشل الفاصل المعنوي بين الشرق والغرب. ومعظم هؤلاء أوروبيّو السحنة والبشرة، وأقوام مؤدبون ومثقفون، وفي الغالب أرقاء الحال، مقارنة بجيرانهم في غرب القارة.
وقد تلقيت أخيرًا دعوة من مدينة فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا - أو فيلنو، كما لا يزال يسميها البولونيون، حلفاؤها ثم أعداؤها. وبدأت أقرأ عن تاريخ المنطقة، فوجدت نفسي غارقًا في متاهة لا مخرج منها. ولذلك، لن أغامر بعرض ملخص ما قرأت، لأن عليّ أن أقرأ من جديد، من دون أي وعد بالفهم أو الاستيعاب. فأهل المنطقة التي تضم بعضًا من روسيا، وبعضًا من بولندا، وبعضًا من دول البلطيق، وبعضًا من ألمانيا، وبعضًا من روسيا البيضاء، لم يكن لهم اسم واحد قبل ترسيم الحدود. وعندما تم ترسيمها قبل الحرب العالمية الثانية، تبين أن ثمة أقلية ألمانية في بولندا، وأقلية روسية في ليتوانيا، وأقلية ثالثة في منطقة رابعة، فكانت الحرب. وتغيرت الحدود من جديد، وأسماء الشوارع والمدن، ووجد غونتر غراس نفسه يفوز بـ«نوبل الآداب» عن ألمانيا، بعدما كان قد ولد وعاش شبابه في غدانسك البولونية.
وكانت تلك الحالة البشرية تسمى «أكبر شتات في التاريخ»، إلى أن بلغ الشتات السوري ذروته، في الداخل والخارج، ففقدت تلك المنطقة مرتبتها، كما فقدت اسمها البولوني «توتجس بن»، وترجمتها «أحد الناس الذين يسكنون هنا». وهذا يدل على أمرين: عبقرية اللغة البولونية؛ كلمة واحدة مقابل خمس كلمات، وعلى البؤس والعذاب والقهر في التاريخ البولوني. أما إذا أردت مرادفة عربية للكلمة، فهي «البدون». لو أن أهل هذه المناطق كانوا يعرفون أن ترسيم الحدود بعد الحرب الأولى سيؤدي إلى الانفجار الكبير في الثانية، لفضلوا أن يبقوا على حالهم.
لم تعد هناك حروب كبرى، أو صغرى، بين هذا الخليط من الشعوب، لكن الحساسيات ما زالت فاقعة. فالذين من أصل بولوني، ومن أصل ليتواني، يرفضون حضور القداديس في الكنائس في وقت واحد، ويتحاشون الذهاب إلى مطاعم واحدة. ويذكرني ذلك باللبنانيين الذي يحملون خلافاتهم معهم إلى الخارج، ليس من طوائف مختلفة، بل من طائفة واحدة. وكان أغرب مثال في مونتريال؛ إذ أنشأ أبناء طائفة واحدة كنيستين، لهما كاهنان وجمهوران وقديسان... وصلاة واحدة.. . . . . . .
التعليقات