عبدالله ناصر العتيبي

بات السعوديون اليوم يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الارتهان لفكرة الحليف الأوحد لم يعد أمراً مجدياً في حسابات المستقبل، وأن الاعتماد التجاري والسياسي والعسكري على طرف دولي دون سواه أصبح مجرد علامة تاريخية «ليس إلاّ» في الخط الزمني السعودي.

قد تحتاج الدولة الناشئة إلى حليف دولي قوي يتبادل معها المصالح والمنافع المشتركة في مقابل أن يتبنى تفعيل مدخلات ومخرجات اقتصادها، ويقف إلى جانب خياراتها السياسية، ويساعد في بناء سورها الدفاعي. لكن، لكي تعبر الدول إلى المرحلة الثانية من عمرها، عليها دائماً أن تتحدث بأكثر من فم، وتصافح بعشرات الأيدي، وتصنع باستمرار الكثير الكثير من الخطط البديلة.

كانت أميركا طوال عقود حليفاً موثوقاً عند السعوديين، وكانت سفينة الاقتصاد السعودي تسير في خط ذي اتجاهين عبر المحيط الأطلسي، تحمل الجزء الأكبر من النفط السعودي المصدّر ذهاباً، وتأتي بالجزء الأكبر من الواردات السعودية إياباً، ساهمت السعودية طوال عقود في بث الحياة في الجسم الصناعي الأميركي عبر التزام طويل وموثوقية راسخة لا يتكرران كثيراً في العلاقات بين الدول، وفي المقابل ساعدت الخبرات الأميركية والصادرات التكنولوجية المتقدمة المشتراة بالذهب الأسود في تطوير السعودية طوال العقود الثمانية الماضية.

وكانت السياسة السعودية تسير في خطٍ متوازٍ بجانب النظرة الأميركية الكلية للعالم، مع اختلاف في تفاصيل معينة حفظ للدولتين نديتهما واستقلال مواقفهما السياسية. كانت أميركا على الدوام تحتاج إلى دولة إقليمية كبيرة كالسعودية للحفاظ على مصالحها البعيدة من قارة العم كريستوفر كولمبوس، وتسعى باستمرار الى الحصول على مباركة السعودية لقراراتها وتموضعاتها في منطقة الشرق الأوسط من أجل الإبقاء على التوازنات العالمية التي تخدم مصالحها، وفي المقابل كان لدولة بحجم السعودية أن تستدرج باستمرار الحمائية السياسية الأميركية لقرارات ومواقف الرياض المتعلقة بقضايا المنطقة.

أما في الجانب العسكري، فبُنيت العلاقة على أربعة ثوابت رئيسة. أميركا لم تمانع في أن تبني قوة حليف موثوق في المنطقة، لكنها في الصورة الكلية للعلاقة هذه سعت إلى دعم الصناعات العسكرية فيها وإبقاء شركاتها العملاقة في حال تيقظ دائمة -أيام الحرب الباردة- اعتماداً على الأموال الشرق أوسطية التي تأتيها أحياناً على ظهر السفينة نفسها التي تحمل الزيت العربي إليها. والسعودية أرادت كذلك أن تكافئ أميركا على مد خط الدعم السياسي لها بضخ البلايين في الاقتصاد الأميركي في مقابل السلاح، لكنها في الصورة الكلية لهذه العلاقة كانت تسعى الى بناء قوة عسكرية تحمي ثرواتها المتعاظمة ورمزيتها الدينية.

كانت السعودية جيدة في هذه العلاقة الوطيدة، وكانت أميركا كذلك، لكن على رغم الهدوء التراكمي الطويل، والصفاء الذي يبني نفسه بنفسه بين البلدين، كانت هناك استثناءات زمنية تعرض فيها الود بين الطرفين إلى جفاء موقت! أحياناً كان الطرفان يحتويانه بسرعة شديدة، وأحياناً كان يتلاشى بعد فترة قصيرة في فضاء المصالح المشتركة والعلاقات الطويلة!

كانت الأمور تعود إلى طبيعتها في كل مرة، كما هي الحال مع الأمس القريب واليوم، ففي الأمس عكّر باراك أوباما صفو العلاقات وخدش قدسيتها التاريخية، واليوم جاء الجمهوريون إلى الحكم ليعودوا من جديد لمد يد التحالف مع حليفهم التاريخي القديم! لكن هل ستستمر الأمور دائماً على هذا المنوال؟ وما الذي سيضمن ألا يأتي جيل جديد من الأميركيين يذهب بهذه العلاقة بعيداً إلى حيث لا طريق عودة؟

السعودية اليوم ليست هي السعودية أمس، فالمفاتيح الاقتصادية والسياسية التي كانت صالحة في الثمانين عاماً الماضية ليس بالضرورة أن تظل صالحة في العقود القليلة المقبلة، ونموذج أداء الدولة خلال القرن الماضي قد لا يصلح للعمل في المستقبل القريب! كما أن الاعتماد على حليف واحد في الاقتصاد والسياسة والجوانب العسكرية قد يجعل من السعودية خارج مجموعة «أصحاب القرار» في وقت قريب.

أميركا حليف موثوق واستراتيجي، هذا صحيح، لكنه ليس كل الحلفاء. هكذا تقول الحكاية الجديدة، اليوم تعبر السعودية إلى المرحلة الثانية من عمرها عبر التفاعل مع قوى سياسية واقتصادية عالمية عدة، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على موقعها القيادي في المنطقة.

اليوم ستعيد السعودية ترميم صورتها الدينية ورمزيتها في العالم الإسلامي من خلال التواصل من جديد مع مختلف الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها. وستتحاور مع القوى العالمية بصفتها مهبط الوحي والحامية والراعية للحرمين الشريفين.

السعودية هي من يمثّل العالم الإسلامي، هذه حقيقة تاريخية، لكننا اكتشفنا في السنوات القليلة الماضية أن عدداً من الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية وبعضاً من عرّابي السياسات الغربية صاروا يلجأون إلى إهمال هذه الحقيقة ويتجاهلونها عمداً من أجل إبعاد تأثيرها في مجريات الأحداث في الشرق الأوسط والعالم بما يخدم مصالحهم الخاصة. واليوم صار لزاماً علينا أن نعيد تجميع مصدر قوتنا الرئيس من خلال تغيير نموذج الحليف الواحد أولاً، وثانياً من خلال إنشاء مجمع إسلامي عالمي في مكة أو المدينة يضم علماء كثيرين من مختلف دول العالم الإسلامي ومن مختلف أطيافهم وطوائفهم، ليتصدى إلى الفتوى السياسية التي تفرض احترامها 1.5 بليون مسلم، وثالثاً بالانفتاح على الدول الإسلامية الكبيرة والشعوب المسلمة ذات الوزن السكاني الكبير في دول العالم المختلفة، والاهتمام بهم، ورابعاً من خلال عقد الأحلاف مع دول العالم الكبيرة بصفتنا الاقتصادية وبصفتنا الإسلامية.

بالأمس غادر الملك سلمان بن عبدالعزيز بلاده متوجهاً في زيارة طويلة إلى إندونيسيا وماليزيا والصين واليابان والمالديف وبروناي ويختتمها بالأردن. وبالأمس مدت السعودية يديها من جديد إلى تاريخها المجيد، ووضعت قدمها على الخطة الجديدة (ذات البدائل الكثيرة) في طريق المستقبل.