آن بنت سعيد الكندي

يدهشني الحراك الاقتصادي السعودي وثراء ساحته الكتابية التحليلية، ويتجلى ذلك أكثر عند أي حدث اقتصادي، مثل إعلان الموازنة أو الأنشطة المتعلقة بـ«رؤية المملكة 2030». وتتنوع بطبيعة الحال أي ساحة بين نقد تحليلي رصين، وبين انتقاد، وإبداء الارتياح في بعض الأحيان، حتى لا نبتعد عن الخصوصية العربية التي قد يرتبط فيها التطبيل لحدث ما بالحصول على المناصب والمنافع؛ أقلها درء الأذى.
وبالعودة إلى الحراك السعودي السياسي الخارجي، فاللافت للانتباه ديناميكيته ومحاولة الاستدارة الاقتصادية والسياسية التي أعقبت التغيير في السياسة الأميركية إزاء حلفائها، التي تجلت في توجه الزيارة الملكية لشرق آسيا، وزيارة متزامنة لولي ولي العهد للرئيس دونالد ترمب.
كان من الممكن أن تكون استجابة المملكة خجولة لأزمة مالية بدأت بسياسة «من يصرخ أولاً» في تحمّل تبعات انخفاض أسعار النفط، فكانت الدول المصدرة للنفط أول الصارخين.
يحسب للمملكة نشرها تقرير «الرؤية 2030» بشفافية، واستخدام مصطلح «تحول» الذي يفرض عدم التراجع، على الرغم من أن المملكة تبدو وكأنها تخسر داخلياً وخارجياً، حتى إن تقرير «الرؤية» يشير صراحة إلى تدني مستوى التعليم، وهو أمر لا بد من الاعتراف به إذا ما أرادت دولة ما أن تتقدم، وأن المملكة ستعالجه. وهكذا كانت بداية التحول الماليزي والسنغافوري؛ حيث لم يتطلع مهاتير محمد إلى تولي حقيبة وزارية مالية أو اقتصادية، بل ملف التعليم، ليصبح وزيراً للتعليم ويرفع من مستوى بلاده ماليزيا اقتصادياً واجتماعياً.
توجت المملكة رؤيتها بثلاث كلمات: الاستثمار، والإنتاجية، وأخيراً التحول. هكذا جاء عنوان الرؤية «السعودية ما بعد النفط» التي مر على إطلاقها أكثر من عام (ديسمبر/ كانون الأول 2015)، كما ذكرت مقدمتها عدد الخبراء الماكنزين من شنغهاي ولندن وسان فرنسيسكو، والاستعانة بجامعتي «بروكينغز» و«هارفارد». وهم في الحقيقة يشهد لهم في المجالات الاستثمارية وتعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية، مع الأخذ في الاعتبار خلفياتهم الثقافية؛ فمجتمعاتهم تعدت مرحلة الثورات الاجتماعية والسياسية، ووصلت إلى مراحل متقدمة في الديمقراطية، وبالتالي، فإن الشق الاجتماعي لا يتم إغفاله تعمداً، وإنما انعكاساً لخلفياتهم.
الخبرة والدراية بالثقافة المجتمعية الخليجية يصعب تضمينها دون الاستعانة بالخبراء المحليين، ليس لأنهم الأدرى بتحديات أوطانهم فقط؛ إنما لأنهم عاشوا مرارتها. لذا يلاحظ القارئ لـ«رؤية 2030» أنها تقارن المملكة بالدول الأوروبية والاسكندنافية في كثير من الجوانب.
وللإنصاف؛ فليست المملكة الدولة الوحيدة التي تستعين بالشركات الاستشارية. وليس الخطأ في الاستعانة بهم، ما دمنا نعرف ما نريد، فقد ذكر أحد المقالات في «بلومبيرغ» أن من الأفضل لك أن تفتح شركة استشارات في الخليج بدلاً من أن تفتح بنكاً، حيث بلغت فاتورة الاستشارات في دول الخليج لعام 2015 ما يقارب 3 مليارات دولار.
تحاول الدول الخليجية عبر الاستعانة بالشركات الاستشارية تعويض ما يشوب أجهزتها التنفيذية، وقد آن الأوان لوضع معايير اختيار لتعيينات مراكز اتخاذ القرار، والتركيز على بناء قدراتها المحلية In house capabilities في أجهزتها التنفيذية، حتى تكون الاستعانة بالشركات الاستشارية أكثر تخصصية وأكثر عمقاً.
اللافت للانتباه أنه إذا ما استبدلت بالمملكة دولاً خليجية أخرى في «رؤية 2030»، فإن الوضع نفسه ينطبق عليها مع تفاوت درجات تعقد المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذا ما أرادت دول الخليج التعلم من تجاربها.
وصلت دول الخليج إلى مرحلة لا تستطيع فيها الاستمرار في دفع فاتورة الرفاه الاجتماعي مالياً واجتماعياً، بحجم الاتكالية الذي وصل إلى مرحلة «الدلال المؤذي» الذي خلقه أسلوب حياة الاقتصاد الريعي، فهل التحول الاقتصادي سيخلق أسلوب حياة جديداً؟ هل هذا هو ما ترمي له المملكة؟ إن المملكة – مثل باقي دول الخليج - بحاجة اليوم إلى ورشات تغيير اجتماعي أكثر من ورشات التنوع الاقتصادي.
وإن كان هناك درس نتعلمه مما يسمى الربيع العربي، فهو أن شعوب تلك الدول ركزت على التغيير السياسي بينما هي بحاجة إلى ثورة فكرية اجتماعية. نحن مجتمعات مستهلكة لا نقدر قيمة ما نملك؛ نسرف في الضيافة ونعتبره كرماً، نباهي بما نملك لا بما تعلمنا، حتى نعد رقم السيارة وجاهة من الممكن أن تكون مدخلاً للزواج. كم من القيم التي نحن بحاجة إلى زرعها في مجتمعاتنا؟ إن الحلول الاقتصادية لا يمكن أن تكون بمنأى عن الإصلاح الاجتماعي؛ إذ إن خلق مجتمعات مدخرة لا يأتي بحلول اقتصادية بحتة، فهل الرهان اليوم أن التحول الاقتصادي سيخلق تحولاً اجتماعياً؟ نحن بحاجة له كاحتياجنا للاستقرار والأمان.
الدينامكية مؤشر صحي على سرعة الاستجابة للضغوط، فهل سنرى يا ترى ديناميكية سعودية في ملفات أخرى تشبه ديناميكيتها السياسية والاقتصادية؟
وللفكرة بقية.