جاسر عبدالعزيز الجاسر

 إحدى أهم صفات وقدرات القادة وبخاصة الزعماء المتميزون قدرتهم وتميزهم في قراءة المستقبل.

فقائد أو زعيم الدولة سواء كان ملكاً أو رئيساً أو أميراً ليست مهمته فقط إدارة الفترة التي يحكم بها، أو أن يؤدي دوره في خدمة بلاده ومواطنيه بأن يكون حاكماً عادلاً منصفاً مع الجميع، بل أيضاً مطلوب منه أن يضع أسساً وقواعد لاستمرار تطور بلاده وتقدمها من خلال العمل على تفعيل التنمية المستدامة، وتطوير علاقة بلاده الدولية، وأن يضمن ويفعل تلك العلاقات بحيث يخدم مصالح بلاده مع عدم سلب مصالح الدول الأخرى.

إعداد القادة وتهيئة الزعماء لا يعتمد على تخصيص معاهد أو كليات وإن كانت هناك قاعدة من أهمها إعداد القادة المؤهلين والمنتظرين لحكم بلدانهم داخل منظومة الأسرة، وهو ما تلجأ إليه الأسر المالكة.. حيث يخضع أبناء الأسرة إلى نظام تعليمي وتدريبي لا يعتمد على وضع مقررات وفصول دراسية بقدر ما يعتمد على جعل شباب الأسرة وأبنائها تحت إشراف وتوجيه حكماء الأسرة، ممن لهم خبرة وتجربة في الإدارة والحكم، طبعاً بالإضافة إلى حثهم على استكمال دراساتهم المتقدمة، كالدراسات الجامعية والدراسات العليا.

وهناك أسر تفضل أن ينخرط أبناؤها المرشحون لقيادة البلاد ضمن نظام تعليمي تدريبي خاص ضمن معهد أو مدرسة ملكية خاصة يجلب لها المتفوقون دراسياً وتربوياً، ويشتركون جميعاً مع أبناء الأسرة وبالذات المرجح أن يكون ملكاً أو أميراً للبلاد وينخرطون جميعاً في منهاج دراسي هو نفس المنهج العام مع إضافة مواد لرفع مستوى فكر وملكيات من تؤول إليهم مسؤوليات الحكم، وهذا ما تأخذ به العديد من الأسر الحاكمة ومنها المملكة المغربية.

أما الأسلوب الشائع والذي تأخذ به معظم الدول خصوصاً ذات الأنظمة الجمهورية فإنها تسلك أسلوبين: الأسلوب الديمقراطي المبني على وجود الأحزاب السياسية والتي تعتبر مدارس لإعداد القادة السياسيين كما هو ملاحظ في الدول الأوروبية وباستثناء الأسلوب الآخر وهو أسلوب الأنظمة العسكرية التي تصل للسلطة بانقلاب عسكري كما حصل في كثير من الدول العربية والإفريقية وأمريكا اللاتينية والتي صنعت مدرسة وأسلوباً خاصاً بها حصرت به المناصب القيادية من رئيس النظام ورؤساء المؤسسات السياسية وحتى الاقتصادية والخدمية على المنتمين للمؤسسة العسكرية لتلك البلدان.

نعود للأسلوب الأكثر تطبيقاً وشيوعاً وهو الأسلوب أو النظام الديمقراطي الذي يتركز على وجود الأحزاب التي هي بحق مدارس ومعاهد مفتوحة لإعداد القادة والسياسيين، فالدول الأوروبية يتدرج القائد والزعيم السياسي من المحليات ومراكز الأحياء والبلديات منخرطاً في مؤسسة الحزب الذي ينتمي إليه والذي يتدرج معه من خلال خدمة العمل المدني الحزبي، إذ يرتقي عضو الحزب من ممثل له في لجان الأحياء ثم مجالس البلديات أو الإدارة المحلية للمدن حتى يصل إلى عضوية البرلمان ليكون مهيأً للعمل وزيراً أو رئيساً للحكومة أو مرشحاً لرئاسة الدولة.

ضمن هذه المسيرة تزداد خبراته السياسية وتكوين معارف تراكمية أكثرها تتم من خلال التثقيف الحزبي والحوارات التي تتم بين الأعضاء.

التثقيف الحزبي و«الديالكتيك» هو ما تعتمد عليه الأحزاب الشمولية وبالذات الماركسية أو الشيوعية والاشتراكية وحتى الأحزاب القومية الشوفنية، هذه الأحزاب تعتمد على شحن عضوها بالثقافة الحزبية، ولذلك فهم يهتمون بالحوارات الفكرية وأكثرهم ذوو ثقافة عالية، إلا أنهم يعاب عليهم السقوط في «التنظير» والتقصير في أداء الخدمات في العمل الميداني والمدني، ولذلك فهم منفصلون عن مجتمعاتهم، وبما أنهم ينصبون بقرارات حزبية ومنهم من يصل إلى سدة الحكم فإنهم عادة يتخذون قرارات وإجراءات تعتمد على النظريات وليس الخبرات العملية، وهذا ما يتضح في أسلوب عمل القيادات التي أعقبت قيادات الاتحاد السوفياتي في حكم روسيا والدول الأخرى التي كانت أعضاء في الاتحاد المنحل.

فبالنسبة لروسيا نجد أن قيادات الدولة جميعهم من خريجي مدرسة الحزب الشيوعي الذي يعتمد النهج «الديالكتيكي» والحوار العملي المستند إلى النظريات الماركسية، والتي تركز على الدراسات المستقبلية واستشراف آفاق تطور الدولة والحكم، هذا النهج يرى العديد من متابعي إدارة القيادة الروسية بأنها فشلت فشلاً ذريعاً في التوافق مع ما توصلت إليه نتائج استشراف مستقبل علاقات روسيا الدولية، وما تقوم به روسيا من تحالفات مع نظام يتعارض فكرياً مع جذور وأسس الفكر الروسي، وهذه التحالفات جعلتها تضر بمصالحها وعلاقاتها مع دول عديدة تعاني من عداء ذلك النظام الذي يعتمد نهج وأسلوب التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول التي تعتبر تحالف روسيا مع ذلك النظام إضراراً بمصالحها، وتعتبره تحالفاً عدائياً ضدها، فهل فُرضت النزعة الفردية والتسلط لشخص بعينه على الأسس العلمية والنهج الدراسي للإنسان الروسي؟.