توفيق السيف
في مقالة قصيرة نشرها مؤخراً، أثار المحامي المعروف عبد الرحمن اللاحم، مسألة استقلال الفرد ومدى سلطة المجتمع والقانون على حياته الشخصية. والمقالة جزء من جدل اجتماعي واسع حول الحق في الترفيه، ومن ضمنه ذلك الذي يعد عند بعض شرائح المجتمع خاطئاً أو غير ذي أولوية.
للوهلة الأولى بدا أن محور الجدل هو التجويز الشرعي لعقد المناسبات الترفيهية والمشاركة فيها. لكنه في حقيقته العميقة متعلق بحق الإنسان في ارتكاب الخطأ. ولطالما تجادل الفلاسفة حول سؤال: هل يستطيع الإنسان تحديد ما هو خير له وما هو شر؟
تميل الثقافات التقليدية عموما إلى اعتبار عقل الإنسان قاصرا عن تشخيص المصالح والمفاسد. ولذا فهو بحاجة إلى معلم ورقيب. هذه الرؤية قديمة في التفكير البشري، وتحدث عنها أرسطو بصورة مفصلة في شرح نظريته الأخلاقية، وقرر أن مهمة الدولة هي تعليم الرجال معنى السعادة وكيفية بلوغها. ومال كثير من قدامى المتكلمين المسلمين إلى أن النقص الطبيعي في الإنسان هو المبرر الرئيسي للولاية عليه.
لكن منذ أواخر القرن السابع عشر، مالت الفلسفة إلى منحى معاكس، يؤكد على أهلية الإنسان لتشخيص الخير والشر اعتمادا على عقله المنفرد، وأنه - لهذا السبب - حر في حياته، مسؤول عن أفعاله، ولولا أهليته لتمييز الصواب والخطأ، لما جازت محاسبته على أفعاله.
يطرح التقليديون مجادلة مقنعة في العادة لمستمعيهم، فحواها أن الخطأ محتمل من الإنسان، وهو يتأثر بالغرائز والشهوات، فضلا عن غواية الشيطان، فلا يبعد أن يقع في الخطأ مرارا وتكرارا. ولو استمع لأمر المرشد الناصح قبل الإقدام على أي فعل، لما انزلق في الأخطاء. فأيهما خير للإنسان: أن يستمع دائما إلى قول مرشده قبل الإقدام على أي فعل، أم يتجاهل المرشد، ويتصرف حسب إملاءات عقله القاصر، المتأثر بالغرائز والشهوات وتزيين الشيطان؟
واضح أن مستمعي هذه المجادلة، سيميل أغلبهم إلى الخيار الأول، أي كبح عقله والاتكال على عقل المرشد.
- فماذا لو قلت إن الخيار الثاني هو الصحيح، رغم أنه يؤدي أحيانا إلى ارتكاب الأخطاء؟
ثمة عشرات الأدلة على هذا القول، لكن أبسطها هو مشكلة الدور. إذا كان النقص وارتكاب الخطأ جزءا من طبيعة البشر، فماذا عن المرشد... أليس إنسانا يحمل هذه الصفة؟ بديهي أن النقص يصيب العمل كما يصيب التفكير والتصور، فما الذي يقيه من ارتكاب الخطأ في التفكير والإرشاد.
لكن دعنا من الجدل الفلسفي، ولننظر في التجربة الواقعية للبشر. هذا التقدم الهائل في العلوم والفنون، ألم يصنعه البشر الخطاؤون؟ فما إنجازات المرشدين والمسترشدين في المقابل؟
هل لإنجازات الخطائين تلك، قيمة معنوية وأخلاقية، أم إنها بلا قيمة؟ هل يمكن للإنسان أن يتعلم ويتقدم من دون تجربة الخطأ والصواب؟ هل يصح قصر التفكير والتجربة على شريحة محددة من المجتمع، أم هو دور يقوم به جميع الناس؟
زبدة القول إذن أن الحق في حرية التفكير يعادل في جوهره الحق في ارتكاب الأخطاء وتحمل المسؤولية عنها.
حياة الإنسان ليست سوى تجربة مستمرة من الأفكار الصحيحة والخاطئة، والأفعال الصحيحة والخاطئة، وإيقاف هذه التجربة يعادل إيقاف العقل، وتحويل الإنسان إلى مجرد آلة مبرمجة خالية من الروح وعاجزة عن الحياة المستقلة، فهل يود أحد أن يعيش حياة كهذه؟. . .
التعليقات