ابراهيم النجار

ليس صحيحا علي الإطلاق، ما تذهب إليه بعض الكتابات المعاصرة، من أن التاريخ يعيد نفسه، الناس ربما يكررون أخطاء أسلافهم، فيبدو تكرارها وكأنه إعادة للتاريخ.

وكثير هم الذين لا يقرؤون التاريخ، ولا يعتبرون بأحداثه ووقائعه الماضية، ومن ثم يكررون تلك الأخطاء، لكنهم لا يستطيعون أن يعيدوا يوما واحدا من التاريخ، الذي هو في مجمله رحلة نحو الغد لا تعرف التوقف أو التراجع. قد يكون للتاريخ منعطفات وانكسارات، لكنه في كل الأحوال يواصل السير حثيثا نحو المستقبل، وعنده من المقدرة على تجاوز من لا يتابعون رحلته، ما يجعله في حالة تصاعد لا هبوط معه. ولعل الأخطاء التي يرتكبها بعض العرب في العصر الحديث، لا تعيد التاريخ، وإنما تعيد أخطاء بعض أسلافهم التي كانت من السوء، ما جعلها علامات فارقة في سجل التاريخ، لا تفتأ الأجيال المتلاحقة تتذكرها وترويها عبر العصور. 
ومن الثابت تاريخيا، أن بعض العرب - وليس كل العرب- قد ارتكبوا قبل ظهور الإسلام خطايا كبري في حق أنفسهم وفي حق بعضهم، لكن تلك الخطايا تكاد تكون لا شيء يذكر مقارنة بالخطايا التي يرتكبها بعض العرب الآن في حق أنفسهم. وإذا كان الشعر العربي القديم قد احتفظ لنا بصور من خطايا بعض عرب البادية، فإن أخطر ما احتفظ به ذلك الشعر، هو قول أحدهم: " وأحيانا على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلاّ أخانا ". وفي البيت إشارة إلى الغارات التي كانت تشنها بعض القبائل على قبائل أخرى، وأخطر ما فيه أنه يثبت أن تلك القبائل المغيرة كانت عندما لا تجد من تغير عليه، ترجع إلى ذاتها لتأكل هذه الذات وتدمرها كالنار التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله. والسؤال الذي يشغل بعض من يعتقدون أن التاريخ يعيد نفسه، هل بعض عرب القرن الواحد والعشرين نسخة من أسلافهم؟ وهو سؤال يجيب عنه الواقع العربي بوضوح لا يحتمل اللبس ولا التأويل، وهو يؤكد أن ما يحدث الآن يفوق بما لا يقاس ما كان يرتكبه الأسلاف، فقد وصل في بعض الأماكن درجة من البشاعة، قل نظيرها في كل من الماضي والحاضر. 
لابد أن نعي أن الأفعال الراهنة، ليست سوى إعادة إنتاج للخطايا القديمة في صورة مطورة ومستفيدة من مخترعات العصر الحديث، وما من شك في أن الشعوب والجماعات التي تعيد إنتاج الفاسد والمظلم من تاريخها القديم، تعكس ما تعانيه من فراغ روحي وأخلاقي ووطني. وفي الوقت ذاته، لم يبذلوا أدنى جهد لاستغلال الطاقات الشعبية المهدورة في البناء والتصنيع عبر مشروع وطني قومي، ينهي حالات الفراغ ويردم الهوة التي ظلت تتسع وتزداد بين السلطة والناس، حتى انفجرت في شكل ردود أفعال غير طبيعية، لا تفرق بين الأخ والعدو، بين الوطن الذي هو أمانة في أعناق الجميع، والسلطة التي هي حالة ومتغير، ولهذا وذاك حدث ويحدث ما نراه ونقرأ عنه من أفعال وأمور، يصعب على علماء الاجتماع وعلماء النفس، تفسيره أو الوصول إلى تحديد بواعثه. 
ولكل ذي عقل أن يعترف - بعد مشاهد القتل والتعذيب التي تجري هنا وهناك - بأن كل الذين تحدثوا عن الخطايا التي ارتكبها بعض عرب ما قبل الإسلام في جاهليتهم، قد تضمنت مبالغات كثيرة وقست على أولئك العرب، الذين لم يشهدوا ومضة واحدة من ومضات العصر الحديث، ولم يشاهدوا - عن طريق التلفاز- مظاهر التقدم الإنساني، وكيف تستطيع الشعوب أن تنصرف إلى العمل بكل طاقتها، وترى فيه وسيلة ناجعة للقضاء على الفقر والاضطهاد، ومدخلا حقيقيا إلى العدل والمواطنة المتساوية. ومن المؤكد أن المرض الذي تعاني منه بعض الأقطار العربية لا علاقة له من قريب أو بعيد، بما كان يحدث في رقعة صغيرة من الجزيرة العربية قبل الإسلام، إنه مرض ناتج عن عوامل سياسية واقتصادية، ونابع من عمق اللحظة التاريخية الراهنة، وكان في الإمكان معالجتها وتفادي ردود أفعالها في وقت مبكر، بقليل من الحكمة وشيء من المنطق.