عبدالله ناصر العتيبي

كان لافتاً جداً تصريح المستشارة الألمانية أنغيلا مركل قبل أيام بخصوص الخروج من دائرة الاعتماد على أميركا، ومطالبتها شركاءها الأوروبيين بالاستقلال السياسي والعسكري وعدم انتظار الدعم والرعاية من الحليف الكبير! وكان واضحاً أيضاً مضيّها قدماً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الالتفاف حول مشروع الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا واختيارها التغريد منفردة، اقتصادياً وسياسياً!

مثل هذا التصريح النادر في سياق العلاقة الأوروبية- الأميركية الحديثة، ما كان له أن يظهر إلى العلن في الوقت الراهن لو فازت هيلاري كلينتون بالانتخابات الأميركية، وخسر المصوتون القوميون الوحديون البريطانيون في استفتاء «بريكزيت»، لكنه على أية حال كان سيظهر لاحقاً بالتأكيد بعد 10 أو 20 أو 30 سنة، فتغير البناءات السياسية الدولية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية مقبل لا محالة على ظهر كولونيالية جديدة أو اشتباك ديني متجدد أو حتى ثورة اقتصادية عالمية عابرة للحدود. لا الدول تدوم على حالها، ولا التحالفات تبقى كل الوقت، وليس واجباً حكماً بقاء أولاد الأصدقاء وأحفادهم وأحفاد أحفادهم أصدقاء أيضاً!

لكن السؤال يبقى: كيف لمركل أن تقول هذا الكلام في عالم ثنائي الأقطاب؟ كيف لها أن تعلن مقدمة الانسحاب هذه، وهي العارفة ببواطن الأمور والمدركة أن بلدها لا يمكن أن يطمئن لجانب القطب الروسي في المستقبل المنظور؟

وهل سيصبح العالم الجديد بدءاً من اليوم عبارة عن ملعب كبير لقطبين رئيسيين بلا ملمح أوروبي هنا أو إضافة أوروبية هناك؟ أم أن أوروبا (مركل وماكرون) ستمسك دائماً العصا من النصف وتكتفي بصناعة الحلول الجاهزة وتمريرها بابتسامة مصطنعة مرة باتجاه أميركا في الغرب ومرة باتجاه روسيا في الشرق؟

لو كانت مركل تعدّ الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب بتصريحاته المتعلقة بأوروبا ظاهرة صوتية لما تفوهت بهذا التصريح الخطر في الوقت الحالي! ولو كانت تثق بالمؤسسة السياسية الأميركية وتؤمن بقدرتها على التصحيح الذاتي والتوالد الصحي، لقالت: هي أربع أو ثماني سنوات ثم يأتي رئيس جديد وتعود الأوضاع إلى طبيعتها! لكن يبدو أن مركل اختارت السير في طريق الألغام في الوقت الحالي في وضح النهار خوفاً من أن تُجبر على ذلك مستقبلاً في الليالي المظلمة!

ألمانيا وفرنسا ومعهما بقية دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة الدب الروسي بلا دعم أميركا! هل يمكن تخيّل ذلك؟ هل يمكن أن يخرج حلف «الناتو» شيئاً فشيئاً من المشهد الأوروبي على مدى السنوات القليلة المقبلة؟

أظن أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ستأتي من الجانب الأميركي. وأظن أن المقاربات التجارية التي يستخدمها ترامب حالياً مع حلفائه ستصطدم باستحقاقات الأمن القومي الأميركي الذي يعتبر أوروبا الجدار الأول في منظومته الدفاعية.

لو تخلت أميركا عن واجباتها الدفاعية تجاه أوروبا وخففت من وجودها العسكري هناك بحجة تعديل ميزان المدفوعات الدفاعي، فستبتعد ألمانيا وفرنسا وبقية الشقيقات الأوروبيات من ظل العلم الأميركي، ما سيصنع فراغاً أمنياً واستخبارياً ونفسياً، قابلاً للملء الفوري من القطب الآخر الذي يحمل متناقضات القطب الأول ولا يشترك معه في أيٍ من المصالح الدولية!

أوروبا العجوز، الضاربة في أعماق التاريخ، ما زال عظمها طرياً على الانفراد الحر بكلمتها بعد 70 عاماً من التبعية المشروطة، ولا يمكن لها على الفور بمفارقة الراعي الأميركي أن ترعى نفسها بمعزل عن اشتباكات قطبي العالم.

ستتمدد «روسيا السياسية» غرباً بعد أن يتمدد الاتحاد الأوروبي الاقتصادي باتجاه الشرق، وسيُقابل تصدير السيارات الألمانية لروسيا تصديرٌ روسي معاكس وغير مباشر للرعاية السياسية وما يلحقها من إملاءات واستحقاقات.

ترامب هدد قولاً ومركل حزمت أمرها قولاً كذلك، وبوتين يضع رجلاً على رجل ويُطل على أوروبا من تلة غربية بانتظار تحول القول إلى فعل!

من الممكن أن يتحول قول مركل إلى فعل، وهي مثلما ذكرت لم تقل ذلك إلاّ من واقع خيبة أمل بالمؤسسة السياسية الأميركية، لكن قول ترامب سيمر على حواجز أميركية كثيرة لن تسمح له بالمرور في الوقت الحالي أبداً. سيتعطل عشرات المرات حتى يتأكد القوم هناك أن جدار أوروبا الحامي لم يعد صالحاً للاستخدام، وهذا أمر لن يتحقق على أرض الواقع في المستقبل المنظور.

وعود على بدء ستظل ألمانيا تعتمد في أمنها على أميركا وستظل أميركا تعتمد في أمنها على ألمانيا، على الأقل خلال السنوات المقبلة، قبل أن يسقط النظام العالمي الحالي ويتكون نظام عالمي جديد ربما بلا هيمنة أميركية وربما بلا النسخة الأوروبية التي تحب الاختباء في الزوايا دائماً.