محمد علي فرحات

سألت مذيعة الفضائية العربية نائباً لبنانياً عن أزمة إصدار قانون جديد للانتخابات وخطورة امتدادها إلى نهاية مدة البرلمان. كانت تطمح إلى جواب يفيد المشاهدات والمشاهدين، لكن النائب استرسل في كلام معقّد لم تفهمه المذيعة، فكيف بمشاهدي الفضائية البعيدين من لبنان ولغة سياسييه غير السياسية. يكاد لبنان يفقد جاذبيته لدى العرب، حتى أولئك الخائفين عليه من امتداد ساحات الجريمة السورية والعراقية. وليس لدى العربي اليوم وقت ولا مزاج يسمحان بتفنيد غوامض مماحكات السياسيين اللبنانيين وفك شفرتها لمعرفة العوامل الشخصية والطائفية والدولية المكوّنة لها.

ولا يشكو زعماء الطوائف في لبنان من شيزوفرينيا تبدو واضحة للمراقبين، إنما يتجاوزون ازدواجية الشخصية إلى تثليثها. فالزعيم له وجه طائفي وآخر مدني وثالث لارتباطه بهذه القوة الدولية أو تلك. ويسير المواطن على النهج المثلث لزعيمه، بوجه لتأمين أعباء العيش وبآخر للمواءمة بين التعصب الطائفي والتسامح الوطني وبوجه ثالث لمواجهة خوف مركّب أمام نفسه وأمام الآخرين.

إنها «المعجزة اللبنانية»، الاسم الكودي للأمراض النفسية- الاجتماعية الكامنة في شخصية المواطن اللبناني، لكن البلد يكاد يتحول إلى «فردوس مفقود» نتيجة نزاعات «ملوك الطوائف»، والجديد هو أزمة إصدار قانون جديد للانتخابات النيابية بدل قانون سنة 1960 الفاقد الصلاحية. ولا يقبل الزعماء التصويت على مشاريع قوانين متعددة لاعتماد الأفضل بالأكثرية، ذلك لأنهم أسرى ما يسمونه «ديموقراطية التوافق» التي لن توصلهم إلى هدفهم: قانون يحدّد نتائج الانتخابات قبل حصولها. ويا لغرابة دولة تدّعي الديموقراطية القائمة على التداول، في حين تمارس «توافق» ديكتاتوريات الطوائف أو صراعاتها الباردة والساخنة.

والزعامات التي تبلورت خلال الحرب الأهلية وفي نهاياتها تعتبر عملها السياسي صراعاً على الحصص تمارسه باسم طوائفها، وغالباً باسم القوى الإقليمية والدولية التي تستند إليها أو تمثلها مباشرة. إن الحرب- الجريمة التي تخاض في سورية والعراق هي ذاتها التي تحدث في لبنان بأيدٍ ناعمة سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، فالقتل باليد العارية لا يختلف عن القتل بيد يغطيها قفّاز.

يضغط زعماء الطوائف على القطاع الخاص فارضين إتاواتهم توظيفاً لأعوان غير مؤهلين، وهذا أهون الشرور. لكنهم يتقاسمون القطاع العام ناظرين إلى إدارات الدولة كجسم غريب، وبالتالي مادة للغزو والنهب. كأن الدولة للمستعمر وليست أبداً دولتهم الوطنية. ولذلك تجدهم يمحون من الذاكرة الجمعية معالم الأداء الجيد للإدارة اللبنانية، خصوصاً في عهد الانتداب الفرنسي، حتى إذا حصل الاستقلال سهلت مخالفة القانون، وبدأ الموظفون النزيهون يقلون عدداً، حتى انقرضوا بعد اتفاق الطائف وتسيّد زعماء الطوائف بتطبيقه المنقوص، استناداً إلى التعاون والتنسيق والأخوّة مع الوصاية السورية.

لا شك في أن زعماء الطوائف لا ينقصهم الذكاء ليفخروا بالتيار المدني في لبنان الذي يحكمونه ويحرصون عليه، بشرط أن لا يتعدى هذا التيار مجالات التعليم والفن والأدب والطب إلى الشأن السياسي. هنا يوقفونه عند حده، وقد يقمعون تظاهراته السلمية عند الضرورة. يفخر الزعيم المثقف بمدنية اللبنانيين وانفتاحهم، لكنه يتقدم إلى المجتمع الدولي في صفة القائد/ الضرورة لطائفته الذي يستطيع في أي وقت لجم التوحُّش لدى تابعيه. إنه يحرص على توحُّشهم ويغذّيه ليخيف وحوش الطوائف الأخرى معززاً موقعه وموقع خصومه من المروّضين الآخرين.

هؤلاء الزعماء مروّضو وحوشهم يختلفون الآن على صوغ قانون جديد للانتخابات.

سوف يتفقون قريباً لأن الأمر الإقليمي والدولي صدر، فلدى الكبار ما يكفيهم من مشكلات في المنطقة وليس لزعماء لبنان سوى الإذعان.