يوسف مكي
كانت النكسة حدثا كارثيا مروعا، ونقلة إستراتيجية، باتجاه تغيير المبادئ والثوابت التي سادت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، ولكن حضور القضية الفلسطينية ما زال قويا في الذاكرة والوجدان
ليس هدف هذا الحديث، تقديم مرثية أو بكائية في النتائج الكارثية للنكسة، فقد قام الأدب السياسي العربي بهذه الوظيفة، وتدخل الشعر والرواية، وعدد كبير من الأفلام السينمائية والمتلفزة، وأيضا عشرات الكتب في هذه المهمة، وكفونا مؤونة المشاركة في كرنفالات الأحزان.
لماذا اعتبرت النكسة نقطة فاصلة في التاريخ العربي؟ بحيث يمكن القول إن ما حدث بعدها لم يكن استعادة لوعي مفقود، بقدر ما كان رفعا للراية البيضاء بعد ملاحم بطولية رائعة، شهدتها حرب الاستنزاف، وبعد معركة العبور في حرب أكتوبر عام 1973، ليتأكد من جديد أن النصر العسكري لا يعني شيئا إن لم يردفه فعل سياسي، مواز له في القوة، ويملك من الوعي ما يمكّنه من جعل النصر العسكري رصيدا حقيقيا في خدمة السياسة. كقراءة أسباب النكسة، لن تكون منطقية إن لم نضعها في السياق العالمي، فقد خسرنا فلسطين، ليس بفعل عوامل ذاتية فقط، بل بسبب تواطؤ دولي. ولكي لا تخوننا الذاكرة، فاكتساب فلسطين من قِبل الصهاينة، كانت مقدمته وعد بلفور البريطاني بتسليم فلسطين لليهود. وقد كسبنا معركة مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، مع عدم التقليل من الصمود الأسطوري لشعب مصر، وتضامن العرب جميعا مع أرض الكنانة في مواجهة العدوان، ولكن العامل الحاسم في إنهاء العدوان، كان الإنذار الروسي، وتواطؤ الرئيس الأميركي أيزنهاور مع ذلك الإنذار، مما اضطر المعتدين إلى وقف عدوانه. وقد اعتبر السلوك الأميركي في حينه، جزءا من مخطط الإزاحة الذي بدأت تنتهجه الولايات المتحدة، منذ عهد الرئيس ترومان. كان أمام النتائج الكارثية لنكسة يونيو، أن يعم الغضب ويسود الحزن الوطن العربي بأسره. فالجيوش العربية التي أعدت قرابة عقدين، لتحرير فلسطين، عجزت عن التصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وتمكن العدو في الساعات الأولى من حسم الحرب على الجبهة المصرية، ولم تتعد فترة الحرب 5 أيام، تمكّن خلالها الصهاينة من هزيمة 3 جيوش عربية. تراجع الأمل في تحرير فلسطين، ومنذ ذلك الحين استبدل هدف التحرير بإزالة آثار العدوان. وعقد القادة العرب مؤتمرا لمعالجة آثار النكسة، في العاصمة السودانية الخرطوم، وبدت حالة الانفصام السياسي واضحة في قرارات القمة العربية.
فمن جهة، طرحت شعارات قوية رافضة للعدوان، تمثلت في اللاءات الثلاثة: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، للتخفيف من حالة الاحتقان الشعبي، ومن جهة أخرى، فوّض القادة العرب كلا من حكومتي مصر والأردن للتوصل إلى حل سياسي، يضمن استعادتهم للأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو.
وفي زحمة اليأس والشعور بالعجز عن مواجهة الغطرسة الصهيونية، برزت المقاومة الفلسطينية، بعملياتها المحدودة، بديلا عن الجيوش العربية، وبات المقاتل الفلسطيني في نظر العرب جميعا قدّيسا يعيد لنا شيئا من الكرامة المفقودة. وتعزز هذا الشعور بعد معركة الكرامة، على الجبهة الأردنية، حين تسللت قوة صهيونية إلى الأردن، فقرر رئيس حركة فتح في حينه الراحل ياسر عرفات، التصدي للقوة المهاجمة. وكانت معركة طويلة استمرت أكثر من 10 ساعات، استبسل فيها الفلسطينيون وقاتلوا بشجاعة، وقدم لهم الجيش الأردني إسنادا ناريا ودعما لوجستيا. وانسحب الصهاينة بعدها، حاملين قتلاهم وجرحاهم.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ القادة العرب يتقبلون حركة فتح، ويقدمون لها الدعم في نضالها ضد العدو. استقبل الرئيس عبدالناصر عرفات، وتعهد له بتقديم مختلف أشكال الدعم، شريطة ألا يتوقف إطلاق البنادق عن الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حرب 1967، وليس على الأراضي التي احتلت في النكبة عام 1948.
واستقبل الملك فيصل بن عبدالعزيز، في الرياض، خالد الحسن أحد القادة المؤسسين لحركة فتح، وتعهدت المملكة بتقديم مختلف أشكال الدعم للإخوة الفلسطينيين، وكان هذا التطور عاملا رئيسيا في تسلم حركة فتح قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إذ انخرطت معظم حركات المقاومة في منظمة التحرير الفلسطينية.
وعلى الصعيد الرسمي، بدأت المبادرات الدولية منذ وقف إطلاق النار، داعية الأطراف «بلدان المواجهة العربية، والكيان الصهيوني» للتوصل إلى تسوية سياسية.
وصدر القرار 242 عن مجلس الأمن الدولي، داعيا إلى نبذ لغة الحرب، واعتماد الحلول السلمية لحل المشكلات، وإنهاء حالة الحرب بين العرب والصهاينة، ومطالبا «إسرائيل» بالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في عدوان يونيو.
أُرسِل السيد جونار يارنج مبعوثا للأمين العام للأمم المتحدة، للتوسط بين الأطراف المتصارعة، ولتطبيق القرار 242 آنف الذكر، وزار يارنج المنطقة عشرات المرات، ولم يستطع التقدم قد أنملة على طريق تحقيق التسوية السياسية، ودفع الكيان الصهيوني لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي آنف الذكر.
طرحت يوغوسلافيا مبادرة للحل، رفضتها إسرائيل في الحال، وتقدم وزير الخارجية الأميركية وليام روجرز بمبادرة تسوية للأزمة، قبلت بها مصر والأردن ورفضتها إسرائيل.
وفي حينه، شهد الأردن صراعا مع حركة المقاومة الفلسطينية، التي اتهمت بممارسة دور الدولة، داخل الدولة الأردنية، واشتعلت مواجهات عسكرية عنيفة بين المقاومة والجيش الأردني، وانتهت بطرد المقاومة من الأردن منذ سبتمبر عام 1970، حتى يومنا هذا.
ومنذ ذلك الحين، حتى الغزو الإسرائيلي لمدينة بيروت في صيف عام 1982، انتقلت المقاومة إلى لبنان، واتخذت من حي الفاكهاني في بيروت مقرا رئيسيا لها، حتى إجبارها على الرحيل خارج لبنان، إذ انتقلت قيادة منظمة التحرير إلى تونس، واتخذت منها مقرا لها، إلى حين توقيع اتفاقية أوسلو بين الكيان الغاصب ومنظمة التحرير عام 1993.
وبالنسبة لدول المواجهة، وتحديدا مصر وسورية، فقد أدركت أمام فشل جميع المحاولات من أجل التوصل إلى تسوية سلمية، تمكن العرب من إزالة آثار العدوان، أنّ ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغيرها. فكانت معركة العبور عام 1973. وكانت بمثابة حرب تحريك للتوصل إلى تسوية سياسية. لم يعد الحل العسكري وحده سبيلا لتحقيق هدف تحرير الأرض، بل بات جزءا صغيرا وتابعا لمشرع الحل السياسي.
ومنذ ذلك الحين، انتقلت المنطقة بأسرها من حال إلى حال، وتغيرات الثقافات والأفكار والإستراتيجيات والسياسات. لقد كانت النكسة حدثا كارثيا مروعا، ونقلة إستراتيجية، باتجاه تغيير المبادئ والثوابت التي سادت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ولكن حضور القضية الفلسطينية ما زال قويا في الذاكرة والوجدان، وما زالت فلسطين قضية العرب المركزية.
التعليقات