إياد أبو شقرا
بانتظار ما ستقرر واشنطن فعله إزاء الطموحات القومية الكردية المزمنة، أقله في شمال سوريا، يتركز الاهتمام من دون كلام كثير عن البؤرة الأخطر في منطقة الشرق الأدنى اليوم... ألا وهي جنوب سوريا.
بالأمس نشرت «الشرق الأوسط» قراءات إسرائيلية للوضع في المنطقة الممتدة من البوكمال على الحدود العراقية إلى خط الهدنة في هضبة الجولان مروراً بمعبر التنف الحدودي. وكان مثيراً بعض ما ورد، مع أن التجارب علمتنا أن جوهر السياسة الإسرائيلية يكمن في ما يحصل على الأرض لا ما يُقال. بل، في معظم الأحيان، تكون المواقف المعلنة محاولات متعمدة للتمويه كي لا نقول التضليل.
ولندع، لبرهة ما قيل وما زال يُقال، وننظر إلى حقائق جنوب سوريا.
الحقيقة الأولى أن النظام - بالأصالة أو عبر ميليشيات حماية القرى المحلية - موجود عسكرياً في أقصى جنوب غربي سوريا. ولئن كانت إسرائيل تتقبل مبدأ حماية القرى لأسباب إنسانية وطائفية غير مدفوعة الثمن سياسياً واستراتيجياً، فإن للنظام وميليشيا حزب الله - واستطراداً، إيران - حضوراً عسكرياً في المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ وسفوحه. والصمت يعني أن إسرائيل لا تجد في هذا الحضور تهديداً لها بصيغته الراهنة.
الحقيقة الثانية، أنه يوجد في جنوب غربي محافظة درعا (جنوب منطقة الجيذور وغرب حوران) «جيب» يضم بضع بلدات يسيطر عليه تنظيم داعش. وهذا الجيب يُفترض به أنه معزول جغرافياً عن باقي محافظة درعا (قلب حوران) وأنه معرّض للغارات الجوية. مع هذا، ما زال «داعش» يسيطر على «الجيب»، وما زال طيران النظام الذي دمّر حلب وحمص وضواحي دمشق متمنِّعاً عن قصفه. والشيء نفسه يُقال عن طيران إسرائيل.
الحقيقة الثالثة، أن إسرائيل ضمّت في أواخر عام 1981 الأجزاء التي كانت قد احتلتها من هضبة الجولان عام 1967. وهي تعتبرها اليوم جزءاً لا يتجزأ من «أرض إسرائيل». وكانت المناورات السياسية المتبادلة بين الرئيس السوري السابق الراحل حافظ الأسد وقادة إسرائيل حول «تحرير الجولان» والتفاوض على الهضبة، تتمحوَر حول «مبرّرات» الطرفين للهروب من الحل. وكان من المبرّرات حدود محيط بحيرة طبريا (بما في ذلك أرض البطيحة والحِمّة) وحدود الجزر والمد بالنسبة لمياهها. وذات يوم أخبرني أحد الخبراء المائيين العرب المطّلعين على ملف طبريا أن هدف حافظ الأسد كان الإبقاء على حالة «اللاحرب واللاسلم» - بما في ذلك بقاء هضبة الجولان محتلة – بوصفه ذريعة لعداء «ممانع» مصطنع مع إسرائيل يستفيد منه النظام لأنه يخدم غاية رفض أي توجه نحو الديمقراطية والحريات الدستورية السليمة. وفي المقابل، تستفيد إسرائيل من تحوّل النظام السوري إلى مظلة مزيفة للرفض العربي و«الممانعة» و«المقاومة» اللفظيتين، بينما يحقق فعلياً الأهداف الاستراتيجية لتل أبيب.
الحقيقة الرابعة، أنه منذ «حرب التحريك» العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، الهادفة إلى تسليم كل ملفات المنطقة لواشنطن، ظل خط الهدنة في هضبة الجولان أهدأ «خط جبهة» في عموم الشرق الأوسط. وحقاً، ما كان «العداء» لإسرائيل يترجَم قتالاً إلا في لبنان تمهيداً لضمه إلى «الهلال الإيراني»، والأراضي الفلسطينية لشق الصف الفلسطيني وافتعال «حرب أهلية» فلسطينية... والمسلسلات التلفزيونية والأغاني الوطنية. ومعلوم، أن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 ومن ثم تصفيتها المقاومة الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني كانا جزءاً من خطة أميركية تحظى بمباركة إسرائيلية. فقط تغيّرت تفاصيل التفاهم «التعايشي» بين دمشق وتل أبيب مؤقتاً عام 1982 مع غزو القوات الإسرائيلية لبنان، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى طبيعتها بعد غزو العراق للكويت عام 1990؛ ذلك أنه بعد مشاركة حافظ الأسد في الحرب على نظام صدام حسين، أطلقت واشنطن - ومعها تل أبيب، طبعاً - يده في لبنان. وكانت النتيجة تسريع عملية إلغاء الدولة اللبنانية لصالح «دولة المقاومة».
الحقيقة الخامسة، أن إسرائيل ارتضت منذ انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، و«إعلانها» انتصار «حزب الله»، التعايش مع لبنان يسيطر عليه هذا الحزب المرتبط ارتباطاً عضوياً بإيران وحرسها الثوري. ثم إن إسرائيل، التي تعرف جيداً طبيعة الحزب وارتباطاته وما فعله في نسيج المجتمع اللبناني، حرصت على إهدائه انتصاراً «علنياً» آخر عام 2006 كي تضمن له مزيداً من «الشرعية»، عندما شنّت حرباً ضروساً على لبنان تعمّدت أن تدمر فيها كل شيء إلا البنى التحتية للحزب. وبعدها، ظهر التفاهم الضمني على أن الحزب يمكن أن يستخدم سلاحه في أي مكان في الداخلين اللبناني والعربي، ولكن ليس ضد إسرائيل.
الحقيقة السادسة، أنه بعد خوض «حزب الله» معركة إنقاذ نظام بشار الأسد في سوريا، في إطار «الجهود الحربية» الإيرانية، اكتفت تل أبيب بالتعامل معه بأسلوب تعاملها مع نظام الأسد نفسه... أي «توجيه الرسائل» لا أكثر. وعملياً، قامت الاستراتيجية الإسرائيلية حتى الآن على اعتبار أن بقاء نظام الأسد و«حزب الله» «هدف استراتيجي» لها... ولكن وفق شروطها أيضاً، لا شروط طهران وحدها. وكما نرى منذ 2011، فإن إيران وتوابعها خصّصوا لـ«تحرير القدس» الخطب التحريضية الرنانة والاستعراضات العسكرية، بينما استخدموا أفتك الأسلحة داخل سوريا «لتحرير» كثير من مدنها وقراها من سكانها، واحتلوا أربع عواصم عربية.
وعليه، إذا ما نظرنا إلى خريطة ما تبقى من سوريا، نستشف معالم صفقة كبرى تعبّر عنها «مناطق تخفيف التصعيد»، والواضح أن مشروع «الهلال الإيراني» يلعب دوراً محورياً. ولئن كانت الإشارات من واشنطن وموسكو إلى كل من تركيا والجماعات الانفصالية الكردية في الشمال السوري تبدو متناقضة، فالصمت الإسرائيلي الطويل في الجنوب لا يعني أن تل أبيب غير مكترثة.
إسرائيل، التي حمت نظام الأسد لسنوات من وراء الستار في العواصم الغربية، تريد الآن حصتها في الكعكة السورية، بل والكعكة الإقليمية أيضاً. وهي تطمح لأن تكون حوران الطبيعية التي تقع دمشق على أطرافها الشمالية... تحت جناحها.
التعليقات