عادل درويش 

في ندوة أول من أمس بحث المجلس الدولي للصحافة، ظاهرة التطرف في بريطانيا والبلدان التي تزعزع استقرارها بعد انتفاضات عام 2011.


المجلس متفرع من مؤسسة القرن القادم التي تأسست في لندن القرن الماضي كخزانة تفكير في مجال السلام.
المجلس الدولي يوظف مساهمة الصحافيين في توفير المعلومات اللازمة لحل الصراعات أو معالجة أو إدارة الأزمات.
وكنت من المناقشين في بند يتعلق بتأثير الصحافة سلبا وإيجابا على ظاهرة التطرف والإرهاب المنبثق عنها.
أقصد الصحافة بكل أنواعها، وتشمل أي وسيلة من «تويتر» أو «فيسبوك» أو «واتساب» وأخواتها التي تمكن مصدرا من توجيه رسالة أو معلومة لمجموعة متلقين في آن واحد.
كان لي ورقة تناقش رفضي لتعبير «دور الصحافة» واستبدال «أثر الصحافة كمحيط اتصال وتواصل» به، وتناولت فيها ظاهرة سلبية انتشرت في السنوات الأخيرة: موضة افتعال خلاف بين شخصين في الاستوديو لاستقطاب المتفرجين بين مفهومين على طرفي نقيض، ومع تمسك كل منهما بموقفه يزداد «تطرف» الاستقطاب.
ولعل أحد أفدح الأخطاء التي قد يرتكبها صحافي هو تضخيم الذات والمغالاة في دور يجب ألا يلعبه أصلا ومهمة لم يكلفه أحد بها.
ويتكرر الأمر تقريبا في كل ندوة أشارك فيها عندما أضيع دقائق ثمينة (خاصة في البلدان العربية، أو عند مشاركة متخصصين عرب) في شرح لماذا نغالط أنفسنا ونخدع القارئ والمتفرج عندما نقول دور الصحافة... إننا ببساطة نخرق مواثيق شرف المهنة، عندما يعمينا الغرور وتضخيم الذات عن رؤية طريق مهمتنا الأساسية.
فالدعوة لمكارم الأخلاق، وتنمية المواطن الصالح، والتوعية بما يتعلق بصحة الفرد والمجتمع وسلامتهما ليست دورا للصحافة التي تسعى دوما إلى زيادة التوزيع وتوسيع دائرة المشاهدين (فبغير النجاح التجاري الذي يؤمن استقلال المنبر الصحافي لن نتمكن من حرية التعبير والنشر كأفضل خدمة للمواطن).
أما الأدوار الاجتماعية النبيلة فمهام مؤسسات أخرى كالأسرة، والمدرسة، ورجال الدين والقائمين على المؤسسات الخيرية. الصحافة تقدم لهم منبرا للدعوة. مهمتنا كصحافيين ألا نتخلى عن نظرتنا النقدية مع ضرورة نقل الحدث بدقة وحياد - وليس التوازن، لصعوبة موازنة جميع الأطراف لحظة نقل الحدث. البي بي سي مثلا تتجنب لائحتها التحريرية تعبير الحياد، وتتعمد استخدام تعبير «النزاهة» أو «عدم الانحياز لطرف»، لأنها ليست محايدة في قضايا كالاحتباس الحراري أو دعوة النسويات أو البقاء في الاتحاد الأوروبي مثلا.
فعمل خيري كتوفير مياه الشرب الصحية في قرية نائية في أفريقيا يظل محليا، لكن عندما ينشره مراسل محايد في الديلي ميل مثلا يقرأه مليونا شخص في بريطانيا، ثم تنقله شبكات تلفزيونية ويصبح نموذجا لانتصار الخير على الفقر والجهل عالميا، وتنهال التبرعات على الجمعيات الخيرية المشابهة في بلدان أخرى عندما تنقله شبكات فرنسية وأميركية. قد يجادل البعض بأن الصحافة لعبت دورا إيجابيا. وإذا كان العمل شريرا وفجر مخبول انتحاري قنبلة في اليمن مثلا ثم نقلت الصحافة الخبر، وأعادت الشبكات التلفزيونية العالمية بثه، ثم قلده معتوه شرير آخر استحوذ على عقله هوس عنف «داعش»، ليفجر قنبلة في مدينة أميركية، فهل نقول هنا إن الصحافة لعبت دورا شريرا في ترويج ظاهرة الإرهاب وإنها ساعدت الإرهابيين؟
الدور المزعوم للصحافة في كلا الافتراضين، خيريا أو شريرا، كان مصادفة، والمهمة الأساسية هي نقل الخبر بأمانة وحياد.
لكن عندما تتعمد الصحافة التلفزيونية تسييس «التطرف» الذهني والعاطفي والبلاغي الغوغائي في برامجها، فهو دور سلبي متعمد.
ففي السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة سلبية أضرت بالصحافة التلفزيونية على وجه الخصوص، وهي تعديل سلبي على دور الخبير المتخصص الذي تستضيفه البرامج الإخبارية لإضافة معلومات أساسية وشرح الفقرة الإخبارية للمتفرج أو المستمع كي يستوعب ما جاء في الخبر بدراية أكثر عمقا.
فخبر عن شجار عائلتين في صعيد مصر حول ري الحقول، ويتصادف أنهما من ديانتين مختلفتين تبثه محطة إنجليزية لمتفرجيها أو مستمعيها يحتاج إلى استضافة خبير متخصص. الخبير سيشرح أن الشجار لا علاقة له بالتطرف والإرهاب واضطهاد جماعات كالإخوان المسلمين لمن يخالفهم الرأي والعقيدة، بقدر ما يتعلق بنظام ري لا يعرفه المزارع البريطاني الذي يعتمد على المطر لري الحقول.
للأسف، الكثير من الشبكات العربية غيرت دور الخبير إلى طرف في شجار وصياح غوغائي. فقد أصاب هذه الشبكات عدوى فيروس الشجار الغوغائي من الجزيرة القطرية: افتعال خلاف بين طرفين يزيده المذيع أو المذيعة التهابا (وغالبا يتفق معد البرنامج سرا مع الطرف الديماغوغي العالي الصوت لينحاز المذيع معه ضد المتخصص الذي يحاول تقديم المعلومات المفيدة للمتفرج)... وتتحول الدقائق الثمينة إلى شجار صوتي واستقطاب مواقف «متطرفة» بدلا من تقديم معلومات إضافية يستفيد منها المتفرج.
قبل أيام في البي بي سي أخبرني معد البرنامج أنني سأعلق على مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفوجئت بسؤال المذيعة عن دعوة الأسقف جستين ويلبي إلى تأسيس مفوضية من كافة الأحزاب البريطانية للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي. ويلبي هو رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكية الرسمية لبريطانيا ويتبعها عدد كبير من الكنائس في بلدان الكومنولث (الرئيس الدستوري للكنيسة هو رأس الدولة أي جلالة الملكة). ويلبي زعيم روحاني في مقام شيخ الأزهر عند المسلمين؛ لكنه لا يمتلك سلطات وصلاحيات كبابا الكنيسة القبطية المصرية، أو بابا الكنيسة الكاثوليكية العالمية في الفاتيكان، وهي أيضا دولة في النظام العالمي. والمنصب يمنح ويلبي مقعدا في مجلس اللوردات ضمن 26 مقعدا لأساقفة الكنيسة الإنجليكية. وهو المنصب الوحيد الذي يمنح ويلبي أي تأثير سياسي (عند تحويل أي قرار برلماني إلى اللوردات). خارج هذا السياق فنفوذه روحاني فقط، علما بأن المواظبين على الصلاة في الكنيسة الإنجليكية دون المليونين (تعداد بريطانيا 60 مليونا و«المؤمنون بالله» - من كل الأديان - 16 مليونا و800 ألف في إحصاء 2016).
ترى كم من المشاهدين في البلدان العربية (الذين توجه البي بي سي البرنامج إليهم) ملم بهذه التفاصيل والمعلومات؟
محاولاتي لشرح هذه التفاصيل ضاعت وسط صيحات واعتراضات (بأني مخطئ) من بروفيسور في «الإعلام السياسي» (ماذا يعني هذا بحق السماء؟)، ربما يؤهله صوته العالي لوظيفة منادٍ أو مسحراتي رمضان جاءت به البي بي سي لطرح وجهة نظر معاكسة (ترى ما هو المعاكس لمعلومات أساسية كأعلاه؟) بدلا من تنوير المتفرجين العرب بتفاصيل لا يعرفها إلا المتخصصون!