رياض نعسان أغا
مع انطلاق اللقاءات التشاورية التقنية التي عقدها دي مستورا في لوزان مطلع هذا الشهر (يوليو 2017) بين أطراف المعارضة السورية، انطلقت في المجتمع السوري حملات شعبية ملأت صفحات التواصل الاجتماعي تدعو إلى اعتماد دستور 1950 الذي رسخ بنية الديمقراطية في تلك المرحلة من تاريخ سورية، وأسس لحكم غير طائفي، وقد جاء هذا الدستور بعد أن مرت سورية بحالة قاسية من الفوضى حيث شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية في عام واحد هو 1949 وكان الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم (في شهر مارس) أول انقلاب في الشرق الأوسط، وبداية لتدخل الجيش في الحكم بشكل مباشر، وبعد أقل من خمسة أشهر قام سامي الحناوي بانقلاب على الزعيم (شهر أغسطس) وسرعان ما قام أديب الشيشكلي بانقلاب على الحناوي (شهر ديسمبر)! ولعل هذه الأجواء الانقلابية حفزت الشعب السوري على الإصرار على استعادة الحياة الديمقراطية، التي بدت مطلباً شعبياً منذ حكومة علي رضا الركابي عام 1918 حيث تم تأسيس أول تجربة برلمانية عربية بعد نهاية المرحلة العثمانية. والطريف أن الأمير فيصل بن الحسين استعان عام 1919 بالناخبين الذين اختاورا ممثليهم لمجلس المبعوثان لإسطنبول ليكونوا أعضاء المؤتمر السوري العام الذي قام بتعيين الأمير فيصل ملكاً لسوريا، وهو المؤتمر الذي تولى رئاسته بعد فوزي باشا العظم، هاشم الأتاسي الذي ترأس لجنة صياغة دستور 1920.
ولقد قام الانتداب الفرنسي بتعطيل هذا الدستور لأن خطة فرنسا يومذاك هي تقسيم سوريا، وقد فعلت ذلك، ولن أستعرض التفاصيل فحسبي أن أشير إلى أن دستور 1920 انتهى العمل به وانتخبت لجنة جديدة لوضع دستور لسوريا عام 1928 برئاسة إبراهيم هنانو، وأعلن الدستور الجديد أن سوريا جمهورية نيابية عاصمتها دمشق ودين رئيسها الإسلام، وأن بلادها وحدة سياسية لا تتجزأ، وتم في هذا الدستور فصل السلطات، وقد تم تعديله عام 1947 ثم عام 1948 حيث سمح للقوتلي بولاية ثانية، إلى أن جاء انقلاب الزعيم وتم تعطيل العمل بالدستور.
وحين جاء سامي الحناوي بانقلابه كلف الرئيس السابق هاشم الأتاسي بالإعداد لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وكان دستور 1950 الذي سمي دستور الاستقلال، وكان قد ترأس لجنة وضع الدستور الدكتور ناظم القدسي الذي صرح يومذاك بأن اللجنة درست خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى أرقى المعايير الدستورية.
وأهم ما جاء به الدستور الجديد هو إنهاء النقاش الحاد حول «دين الدولة» حيث اتفق الجميع على الاكتفاء بأن يكون دين رئيس الدولة الإسلام، وهذا ما كان أقره دستور 1930، كما أقر دستور 1950 تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وزاد من صلاحيات البرلمان، ولكن هذا الدستور لم يحسم موضوع تدخل الجيش في الحياة السياسية، وكانت هناك مادة لم يتم إقرارها.
والمفارقة اليوم أن موضوعات النقاش الجارية في لوزان وفي مواقع أخرى تستعيد ذات القضايا على رغم مرور ستة عقود ونيف، حيث كانت الحوارات وما تزال تدور حول صلة الدولة بالإسلام، وحول حقوق الأقليات، وحول موقف الجيش من السياسة، كما أن هاجس تقسيم سوريا لا يزال خطراً يخشاه جميع الشرفاء من السوريين.
وقد توافقت رؤى أغلب المتحاورين في اللجنة التقنية التي تدرس ملف الدستور حالياً على أن صياغة دستور جديد لسوريا تأتي في سياق عملية انتقال سياسي ضمن محادثات جنيف الراهنة، وينبغي أن يبدأ العمل في إعداد الدستور فور إنشاء هيئة الحكم ذي المصداقية غير الطائفي (كما تسميه البيانات والقوانين الدولية) وسيطرح على النقاش الشعبي العام. ويفترض أن تكون آلية ذلك منوطة بهيئة الحكم التي ستدعو إلى عقد مؤتمر وطني عام، يقوم بتشكيل لجنة صياغة الدستور، الذي سيعرض على استفتاء عام، وتلتزم الأمم المتحدة بالإشراف عليه.
وأعتقد أن إصرار قوى مهمة من الشعب السوري على استعادة دستور 1950 بشكل مؤقت هو توجيه مهم لمن سيقومون بوضع دستور جديد، بألا يخرجوا عن روح هذا الدستور، وأن يرسخوا قيم الديمقراطية ومفهوم المواطنة، وأن يحافظوا على المرجعيات الثقافية التي حافظ عليها الشعب وحافظت بدورها على هويته.
التعليقات