يحيى الأمير
في مقطع فيديو طريف ومتداول تقوم إحدى القنوات بإجراء لقاءات عابرة في شارع عام بالرياض، يستوقف المراسل المارة ليسألهم: هل أنت علماني؟ ما تعريف العلمانية؟ المقطع الشهير لا يحمل أية إجابات على الإطلاق بل يحمل إجابات طريفة ومضحكة للغاية (من أشهرها ذاك الذي يجيب: العلمانيين هم اللي عاشوا في العصر العلماني).
الجامع بين كل تلك الإجابات هو أمران اثنان: الخوف المطلق من العلمانية، والرفض المطلق كذلك.
كان هذا المقطع أول مادة أعدت البحث عنها بعد أن قرأت مقال الأستاذ جمال خاشقجي: دكان العلمانية؛ المنشور في 19 أغسطس في صحيفة الحياة. الفكرة العامة للمقال أن العلمانية كلٌ لا يتجزأ، وبالتالي إما أن تأخذها بالكامل أو تتركها بالكامل، وتضمن المقال استشهادات متنوعة لدعم تلك الفكرة.
أنا أعتبر أن أول الأخطاء المنهجية في الحديث عن العلمانية حين توضع كمقابل للدين، أي دين كان، فالعلمانية ليست ذات محتوى على الإطلاق، إنها أشبه ما تكون بأفكار تنظيمية، والتنوع الهائل الذي شهدته التجارب الوطنية الحديثة في علاقتها بالعلمانية جعلتها بالفعل دكانا فكريا حقيقيا يستطيع كل كيان أن يأخذ منها لا ما يشاء بل ما يحتاج إليه، والقيم الكبرى في العلمانية لم تعد اختيارية منذ ظهور الدولة الوطنية الحديثة التي لا بد وأن تشتمل على مسحة من العلمانية.
فصل الدين عن الدولة كتعريف للعلمانية هو التعريف القادم من حالة التخويف الكبرى التي تعرض لها المصطلح، وفِي تاريخ الحركة الفكرية السعودية ومع بداية ظهور أصوات ثقافية مؤثرة لا تنتمي للفضاء الشرعي والفقهي ومع ازدياد وتيرة الصحوة والحركية في الفضاء الشرعي السعودي كانت الوسيلة الأمثل للصحوة في مواجهة الأصوات الجديدة تتمثل في وسمها وتأطيرها ومن ثم سهولة الانقضاض عليها، ومرت تلك العملية بمراحل تطورت نظرا لتطور التنوع الفكري السعودي، وتطورت بالمقابل حالات التأطير والتصنيف المبنية على التخويف، بدءا من الماسونية والحداثة وصولا إلى العلمانية ثم التغريب وأخيرا الليبرالية.
في هذه المسيرة كانت تتم أكبر عملية إيذاء وتشويه لهذه المعطيات الحضارية الكبرى، وتمت أيضا عملية إيهام بأنها عبارة عن اكتساح كامل للدين والأخلاق والقيم، وهو ما ضاعف لدى العوام ذلك الذعر الأعمى من العلمانية.
إن الواقع الحقيقي لكل دولة وطنية يشير إلى أنها بحاجة فعلية لشيء من العلمانية (من الدكان)، وكلما تصاعد أداء الدولة نحو الوطنية كلما ازدادت تلك النسبة، وكل دولة تدير واقعها من خلال تضافر الشرعيات الكامنة داخلها لتبني في النهاية شرعيتها الوطنية الكبرى.
ثمة فرق شاسع بين فصل الدين عن الدولة (التعريف الشعبي للعلمانية) وفصل الدين عن المؤسسة، لا بمعنى أنها تكون مؤسسة غير متدينة بل بمعنى أن تصورات المسموح والممنوع هي التي تدير علاقة المؤسسة بالأفراد المستفيدين من خدماتها وليست تصورات الحلال والحرام، التي تمثل أحد المعطيات التي تبني عليها المؤسسة أنظمتها انطلاقا من قيمها وثقافتها. هكذا تصبح الثقافة بأبعادها الدينية والاجتماعية مؤثرا في تشكيل رؤية المؤسسة ولكن ليست منتجا من منتجاتها.
إن المذهب أو الطائفة أو مدى درجة التدين لدى الأفراد ليست عاملا مؤثرا في وطنيتهم ولا في علاقتهم بالمؤسسات ولا في علاقة المؤسسات بهم، ولأن العلمانية ليست ذات محتوى فهي قادرة على تقديم واقع تنظيمي لكل كيان انطلاقا من قيم وثقافة ذلك الكيان.
أخيرا: إن كاميرات مراقبة السرعة وإشارات المرور في كل العالم لا تفرق بين الخارج من المسجد والخارج من مكان آخر.
التعليقات