مصطفى البرغوثي 

لا أظن أن فكرة تحسين الوضع الاقتصادي في ظل الاحتلال تحتاج إلى كثير من التفنيد، فهي مناقضة للمنطق الطبيعي، لولا أن هذه المقولة أصبحت المخرج والذريعة لأطراف دولية لتبرير جبنها في مواجهة خروقات إسرائيل للقانون الدولي، أو فشلها في خلق آلية تحقق السلام الحقيقي وتنهي الاحتلال، أو لإخفاء تواطؤ بعضها مع مخططات إسرائيل الرامية لتكريس الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري ولتصفية القضية الفلسطينية برمتها.

ولا يمكن لأي اقتصادي جاد أن يقنع أحداً بإمكانية إحداث تطور اقتصادي للشعب الفلسطيني وهو محاصر بستمئة حاجز عسكري، وبمئات المستوطنات وبجدار الفصل العنصري في حين أن معظم الطرق الرئيسة في الضفة الغربية محرمة عليه.

وكيف يمكن للتطور الاقتصادي أن يحدث، وثلث سكان الأراضي المحتلة في قطاع غزة محاصرون منذ أحد عشر عاما ومحرومون من الكهرباء، ومياههم وأجواؤهم ملوثة وثمانون في المئة من خريجي جامعاتهم عاطلون عن العمل؟

وأي اقتصاد يستطيع أن يتطور عندما يكون سكان الضفة الغربية محرومين من 86% من مصادر مياههم، ومجبرين على شراء الماء ممن يسرقونه، أي الإسرائيليين، بسعر يماثل ضعف ما يدفعه الإسرائيلي؟

وفي أي بلد يمكن إحداث تطور اقتصادي عندما يكون شعبه وحكومته غير مسيطرين على تجارته وصادراته ووارداته لأنها محتكرة بيد السلطات الإسرائيلية؟

وكيف يستطيع الاقتصاد الفلسطيني أن يتطور إن كانت إسرائيل تقرر للحكومة الفلسطينية مقدار ضريبة القيمة المضافة التي يجب أن تتوازى مع مقدارها في إسرائيل؟

بل كيف يمكن للحكومة أن تخطط اقتصادها و70% من وارداتها الضريبية أو نحو 60% من مجمل وارداتها تمر عبر السلطة العسكرية الإسرائيلية التي تستطيع احتجازها كما تريد، ولأي مدة تريد، ولأي سبب تريد، كما فعلت بواردات حكومة الوحدة الوطنية عام 2007 وقبلها بواردات السلطة الفلسطينية أيام الانتفاضة الثانية؟

وأي تطور اقتصادي يتحدثون عنه كبديل للحل السياسي، إن كانت 62% من أراضي الضفة الغربية المسماة مناطق (ج) تخضع لسيطرة المستوطنين ويمنع الفلسطينيون فيها بناء مدرسة أو روضة أطفال أو عيادة طبية؟

كيف نقنع أهالي جب الذيب، القرية المحاصرة بالمستوطنات في بيت لحم، بأن اقتصادهم سيتطور وهم محرمون من الكهرباء منذ عقود، وعندما تهدم قوات الاحتلال المنشأة الشمسية البسيطة التي أقاموها لتوفير الكهرباء، وتهدم مدرستهم المتواضعة في أول أيام العام الدراسي؟

وكيف يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن يتطور ونحن نعاني غلاء فاحشا وغير مسبوق، ونضطر إلى شراء بضائعنا بأسعار السوق الإسرائيلي، رغم أن معدل دخل الفرد الإسرائيلي يصل إلى 38 ألف دولار سنويا، في حين لا يتجاوز معدل دخل الفلسطيني ألفي دولار سنويا؟ بل إننا نجبر على دفع ضعف ثمن الكهرباء والماء مقارنة بما يدفعه الإسرائيلي.

لسنا بحاجة إلى عقول ماكينزي وياش كي ندرك استحالة إحداث تطور اقتصادي حقيقي ما دامت الأراضي الفلسطينية مقطعة الأوصال، وحرية الحركة معدومة، وحرية التجارة ملجومة وكل مقومات الحياة من ماء وطاقة وأرض وهواء محكومة بالسيطرة الإسرائيلية المدارة من حكومة يعلن رئيسها ووزراؤها كل يوم، رفضهم لقيام دولة فلسطينية وإصرارهم على الضم والتهويد وتكريس نظام تفرقة واضطهاد عنصري ضد الفلسطينيين.

وكيف يمكن لأقطاب ما يسمى "العالم الحر" و"اقتصاد السوق" و"السوق الحرة" أن يبرروا صمتهم وتعايشهم مع الإجراءات الإسرائيلية التي جعلت من الفلسطينيين أسرى "سوق مستعبد" بالمعنى الحرفي للكلمة؟

فما السر إذاً في الاستمرار بتكرار مقولة "تحسين الوضع الاقتصادي كبديل لحل سياسي ينهي الاحتلال"؟ أليست هذه وسيلة للهروب من ضرورة إنهاء الاحتلال ومنح الفلسطينيين حريتهم واستقلالهم؟ أم أنها أسلوب رخيص لادعاء إنجاز يخفف من حرج مجتمع دولي تعايش مع كذبة "مفاوضات السلام" لستة وعشرين عاما، دون أن تؤدي إلا إلى تكريس الاحتلال وتعميق العنصرية وتغذية دوافع الانفجار، أم لعلها وسيلة يعتبرونها ناجحة لتخدير الفلسطينيين، كي تكسب حكومة إسرائيل الوقت اللازم لإنهاء مشروعها الاستيطاني الاستعماري وتدمير ما تبقى من مقومات وإمكانات قيام دولة فلسطينية؟

ولربما كان شعار تحسين الوضع الاقتصادي، الطُعم الذي يقدم لبعض الفلسطينيين على أمل أن يحققوا أرباحا شخصية على حساب اقتصاد شعبهم وحياته، تماما مثل منح بطاقات "VIP" لحفنة من الفلسطينيين كغطاء لحرمان الملايين من حرية الحركة والحق في الوصول إلى القدس أو التنقل بين الضفة والقطاع.

الصورة واضحة.

وما من شيء يمكن أن يجمل أو يلطف الألم والمعاناة الناجمة عن الاحتلال ونظام التمييز العنصري، وما من سبيل للخلاص من الألم إلا بإزالة أسبابه، فالشعب الفلسطيني يريد إزالة المرض لا التعايش مع أعراضه.

وكل عام وأنتم بخير.