&صالح القلاب
&كان على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يرتكب الأخطاء التي ارتكبها فأصبح هو وبلده، الذي هو دولة إقليمية رئيسية لها مكانتها التي تؤخذ بعين الاعتبار في العالم كله بما في ذلك الدول العظمى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، في هذه الحالة التي لا تسرّ الصديق ولا تغيظ العدا، وحيث - لا سمح الله - إنْ هي واصلت وضعية الانحدار هذه فإنه غير مستبعد أن يضربها سيف الانقسام والتشظي ربما قبل بدايات النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين... الألفية الثالثة!
إنَّ أول خطأ ارتكبه إردوغان هو إدارة ظهره لحليف بلده الاستراتيجي الولايات المتحدة، وكان عليه من أجل الحفاظ على هذا الحليف الذي لا غنى عنه، وبخاصة في هذه المرحلة شديدة الخطورة، أنْ يساير انحراف باراك أوباما وإدارته وأن يحتمل سياسة دونالد ترمب وأن يقترب كثيراً من الرأي العام الأميركي وقواه الحزبية الفاعلة وأيضاً من مراكز صنع القرار في هاتين الإدارتين، والمقصود هنا هي المؤسسات الاستخبارية والمخابراتية، وهم أيضاً الذين يديرون ويشرفون على سياسات هذا البلد الذي هو أهم وأكبر قوة فاعلة عسكرياً واقتصادياً... وكل شيء في كل الكرة الأرضية.
لقد كان على رجب طيب إردوغان بدل أن يرد على انحراف باراك أوباما وسياسة دونالد ترمب، ألا يبتعد ببلده تركيا، العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي، عن الولايات المتحدة ويختار هذه القطيعة المكلِّفة فعلاً معها، ويضع بيض أنقرة كله في سلة فلاديمير بوتين، ويستدير استدارة كاملة في اتجاه روسيا الاتحادية وفي اتجاه إيران، وكل هذا في حين أن المفترض أنه يعرف ذلك المثل القائل: «عدوّ جدّك لن يودّك»!
حتى بالنسبة إلى معركة الحياة أو الموت التي يخوضها مع زعيمه ومعلمه السابق فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والذي يتهمه ليس بمحاولة الانقلاب عليه لمرة واحدة وإنما لعشرات المرات، ويتهم الأميركيين بدعمه، فقد كان الأفضل له، وهو يخوض هذه المعركة مع عدوه اللدود، أنْ يقترب من واشنطن بدل الابتعاد عنها، وأن يفتح أبواب الحوار والتفاهم مع كبار المسؤولين، إنْ في هذه الإدارة الجمهورية وإنْ في الإدارة الديمقراطية السابقة، على مصاريعها، ويقيناً أنه لو فعل هذا ومن دون أي اتهامات ومن دون وضعية الحرد البدائي التي اتخذها لكان هذا الإشكال قد انتهى باكراً ولكانت هذه المسألة قد تم علاجها وعلى النحو الذي يريده ويسعى إليه، فالمعروف أن الدول مصالح وعلاقات.
إنَّ هذا هو الخطأ الأول الذي ارتكبه إردوغان الذي لا ينقصه الذكاء ولا تنقصه البراعة في الألاعيب السياسية والمناورات. أما الخطأ الثاني فهو أنه قد ارتمى في أحضان فلاديمير بوتين، وسلّمه مقاليد الأمور في سوريا وأيضاً في تركيا نفسها وفي المنطقة الشرق أوسطية كلها، وهو يعرف أن حزب العمال الكردستاني - التركي الـ(PKK) الذي استخدمه رئيس روسيا الاتحادية ضده وضد بلده هو صناعة الاستخبارات السوفياتية الـ«كي جي بي»، وأنه كان يعتبر - ولا يزال - أحد أجنحة المخابرات السورية، وأنه سيبقى أمضى الأسلحة التي تملكها موسكو ودمشق ضد أنقرة، وأن الأيام قادمة وفي فترة قريبة سيكتشف أو سيتأكد الرئيس التركي من حقيقة المثل آنف الذكر القائل: «عدوّ جدّك لن يودّك»!
أمّا الخطأ الثالث، فهو أن رجب طيب إردوغان لم يقرأ تاريخ هذه المنطقة قراءة جيدة، وأنه لم يعرف أن التطورات السياسية فيها تتم في هيئة رمال متحركة، وكان عليه أن يعرف ويدرك أن تحالفه مع «الإخوان المسلمين» والانتماء إليهم تنظيمياً سيكون ثمنه فادحاً، فهؤلاء لا يمكن الوثوق بهم ولا يمكن الاعتماد عليهم، فهم كانوا قد تحالفوا مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر وإلى حدِّ أنهم فكروا في اختياره مراقباً عاماً لهم في فترة من الفترات لكنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليه وحاولوا اغتياله، كما كانوا قد اغتالوا لاحقاً الرئيس السادات، وكما كانوا قد اغتالوا سابقاً النقراشي باشا، وكما ارتكبوا جرائم كثيرة في هذا المجال.
لقد أخطأ إردوغان لأنه وضع يده في يد «الإخوان المسلمين» وأدار ظهره لأكبر دولة عربية التي هي أرض الكنانة مصر، كما أنه قد ارتكب هذا الخطأ الفادح نفسه عندما تعامل مع الشيخ يوسف القرضاوي على أنه أمير المؤمنين، وهذا جعله يقطع صلته مع دول عربية لم تتخلَّ عنه في أصعب المراحل والتحديات التي واجهته، وجعلته بدل أن يلعب دوراً إيجابياً في ما يسمى «المشكلة الخليجية» ينحاز إلى قطر ويبتعد عن الآخرين. وحقيقةً إن هذا كله قد حدث نتيجة الألاعيب «الإخوانية»، ونتيجة اعتقاده «الساذج» بأنهم سيرثون هذه المنطقة الشرق أوسطية وما عليها، وأن مصير العالم الإسلامي كله سيكون في أيديهم!
والآن وقد بدأ فلاديمير بوتين ومعه إيران، التي لها مع تركيا العثمانية وتركيا الأتاتوركية أيضاً ألف ثأر وثأر، يتعامل مع أنقرة، بعدما أخذ منها كل ما يريده، كرقم ثانوي في هذه المنطقة المقبلة على المزيد من التطورات الخطيرة مما يتطلب من إردوغان أن يتدارك الأمور، ويبتعد عن هذا المسار الذي سار عليه منذ خمسة أعوام وربما أكثر، وأن يعرف، إنْ هو لم يخرج من هذه الدائرة ويعود إلى نفسه وإلى شعبه وإلى حلفائه القدماء، أن القادم سيكون أعظم وأن الروس والإيرانيين سينقلبون عليه، تسديداً لحسابات قديمة بعضها من زمن العثمانيين وبعضها من فترة لاحقة... أي بعد تطورات القرم الشهيرة، وأيضاً حيث الآن لا تزال هناك أمور عالقة كثيرة.
يجب أن يدرك إردوغان أن تركيا، بعد كل هذا الذي جرى في سوريا والذي سيجري إنْ انتصر الروس والإيرانيون في هذه المواجهة، ستكون مستهدفة أكثر من ذي قبل، فـ«آيات الله» في طهران لا يحلمون فقط بل يسعون لامتداد إمبراطوريتهم المذهبية، بعد توسيع هلالهم الطائفي، لتشمل معظم المناطق التركية الجنوبية – الشرقية، على اعتبار أن غالبية سكانها أكراد علويون وبكداشيون، وأن مكان هؤلاء هو الدائرة الطائفية الكبيرة التي ستضم بالإضافة إلى العراق وسوريا ولبنان لواء الإسكندرون كله الذي كان مصطفى كمال قد ألحقه بدولته بتواطؤ فرنسي عام 1939.
إنَّ هذه مسألة في غاية الجدية، وإنّ الروس الذين لهم مع الأتراك ثارات سابقة ولاحقة كثيرة سيكونون مع «تقزيم» تركيا الحالية، وعلى غرار ما حدث مع الإمبراطورية العثمانية، وسيكونون مع إقامة دولة كردية تابعة وملحقة بهم. والواضح هنا أن الأميركيين لا يدركون أن كل هذه التوقعات جدية وأنها ستتحول إلى حقائق وفي فترة لاحقة قريبة إنْ هم لم يحسموا الأمور في سوريا لمصلحة الشعب السوري وبسرعة، وإنْ هُم لم يبادروا إلى العض على الجرح ويحتضنوا إردوغان ويعيدوا تركيا إلى موقعها السابق في حلف شمال الأطلسي، وليعود جيشها إلى مكانته كأكبر جيش في هذا الحلف بعد الجيش الأميركي.
يجب أن يكون هناك إدراك لدى الأتراك أن التاريخ القريب والبعيد قد شهد مفاجآت كثيرة، وأن أكبر مفاجأة شهدتها سنوات نصف القرن الماضي أن الاتحاد السوفياتي الذي كان يوصف بأنه «عظيم» وأنه باقٍ إلى الأبد قد انهار عندما حان أجله في لحظة واحدة، وأن «اشتراكية» دول أوروبية الشرقية قد اختفت في رمشة عين، وهذا يعني أن ما يفعله ويخطط له الروس والإيرانيون جدّي، وأنه إنْ لم يصحُ إردوغان من غفوته المكلِّفة ويصحح كل هذه الأخطاء آنفة الذكر التي ارتكبها فإن مصير تركيا من غير المستبعد أن يكون كمصير الدول التي ضربها سيف التشظي والانقسام!
التعليقات