&يحيى الأمير

السعودية اليوم أكثر حيوية ونشاطا من أي وقت مضى، والذي يحدث اليوم هو التتويج الأنسب والفعلي لكل تلك المراحل السابقة التي عاشتها المملكة تدرجا متصلا كانت فيه كل مرحلة تنقل معها الدولة إلى المستوى الأنسب والأقدر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

شكلت مرحلة التأسيس والتوحيد إحدى أبرز وأضخم التجارب التي عرفها العصر الحديث، كيان جديد تتضافر فيه مجموعة من أهم عناصر القوة تتنوع من القوة الروحية التاريخية ثم القوة الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية.

استثمرت المملكة هذه القوى لهدف واحد انطلقت فيه من وعي حديث بالدولة الوطنية بصفتها الوصفة الحضارية الأخيرة للتمدن والسلام والاستقرار وبناء العلاقات الدولية الواعية.

لقد مثل هذا الإيمان العميق بالدولة الوطنية سببا لكل التحديات والمواجهات التي خاضتها المملكة طيلة مسيرتها؛ كل تلك المواجهات كانت في حقيقتها للحفاظ على الدولة الوطنية ومواجهة مع من لم يؤمنوا بها، سواء في الداخل أو الخارج.

كان التحول المدني الأبرز في السعودية هو أنها انطلقت لتأسيس دولة لا إمبراطورية ولا كيان توسعي ولا كيان دعوي. وكلما انحرفت بعض التوجهات والأصوات التي أرادت تحويل الكيان إلى كيان دعوي تحركت الدولة لإعادة توجيه المسار باتجاه الدولة الوطنية، وبناء فهم جديد ومدني لدورنا الدعوي يتمثل في خدمة المقدسات الجامعة للمسلمين ومواجهة الإرهاب وبناء هذا النموذج المتجدد.

كل الكيانات والأنظمة الثابتة أو ذات التوجهات الدعوية والتوسعية سقطت وغادرت المشهد العالمي لتؤكد للعالم أنه ودع زمن الإمبراطوريات والكيانات العابرة للحدود، سقط الاتحاد السوفيتي وسقطت أنظمة أخرى وتعرضت كيانات أخرى للدمار والحروب، يقف خلف ذلك كله أحد عاملين: إما الرؤية الدعوية التوسعية، وإما الثبات والجمود وغياب التنوع.

مواجهاتنا مع أنظمة كنظام صدام حسين والنظام الإيراني والجماعات الإرهابية، كالقاعدة وحزب الله والحوثيين؛ كلها مواجهات مع خصوم الدولة الوطنية من ذوي الأفكار الدعوية التوسعية ومن دعاة الجمود ومواجهة التغيير، وانتصرنا وننتصر عليهم كل يوم؛ لأننا نحمل أبرز مقومات النصر؛ ندافع عن الدولة الوطنية الحديثة وندعمها من حولنا لضمان استقرار المنطقة والعالم.

في الداخل أيضا تلك هي معركتنا؛ الدولة الوطنية الحديثة التي يديرها النظام والقانون وتحمي حقوق الأفراد وحرياتهم، لذلك كانت أبرز فصول المواجهة ضد التطرّف والإرهاب والغُلو والأحادية؛ لأنها من أبرز مهددات الدولة الوطنية وأبرز خصومها.

استلزمت تلك المواجهات أحيانا بناء معادلات سياسية وتوازنات مرحلية تنطلق من استيعاب الواقع الثقافي والاجتماعي للمملكة، لكنها بكل تأكيد لم تكن قابلة للاستمرار وهذا ما حدث بالفعل.

أحداث العام ٢٠١١ وما تلاها كانت كلها موجهة ضد الدولة الوطنية في المنطقة، أبرز دليل على ذلك هو الظهور الكثيف للجماعات والميليشيات المسلحة التي لا تزدهر إلا مع تفكك الدولة الوطنية ولذلك وقفنا بحزم واضح؛ لأننا ندرك أن اندثار وتراجع الدولة الوطنية في المنطقة يعني الخروج إلى أزمنة العنف والإرهاب والحروب التي لا تنتهي.

تأخرنا أيضا في برامج الإصلاح الاقتصادي، كانت كل العوامل تصب في صالحنا ووجهنا كل إيرادات النفط لخدمة ودعم تلك التوجهات المدنية الواعية.

المرحلة السعودية اليوم تشهد الإيقاع الأنسب والضروري لهذه المرحلة؛ استوعب العالم المتحضر كل ما قمنا ونقوم به، وكل تلك المراحل يجب أن تتوج بما تشهده السعودية اليوم من إصلاح ونهضة وتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية واسعة، واصلنا في الخارج مواجهة الأخطار التي تهدد الدولة الوطنية وأخذنا في حساب وردع كل المتآمرين من طهران إلى الدوحة، وواجهنا جماعات العنف والإرهاب، سنية كانت أو شيعية، وفِي الداخل جعلنا من الاعتدال وهيمنة النظام والقانون وتوسيع الحريات الشخصية قيما عليا نخطو معها كل يوم إلى سعودية متجددة واعية متحضرة.