محمد المختار الفال
قرع الأستاذ خالد المالك - أحد رموز الصحافة السعودية المعاصرة - جرس الإنذار، محذراً من مخاطر تواجه الصحافة الورقية، إذا لم تتداركها الدولة بما يمكنها من عبور هذه المرحلة المهددة بانهيار المؤسسات الصحافية، وما يترتب على ذلك من خسائر تتجاوز الأضرار المباشرة على العاملين وملاك المؤسسات إلى التفريط في «ثروة وطنية» ظلت طوال 50 عاماً سلاحاً ماضياً في معركة الذود عن الوطن.
وإذا كان تحذير الزميل خالد المالك، هو الأوضح والأصرح من بين ما قيل ويقال منذ فترة عن واقع الصحافة الورقية، فإن طلائع الأزمة بدأت منذ سنوات، وإن تفاوتت أضرارها على المؤسسات، بحسب الملاءة المالية والقدرة على التكيف، لكن الجميع تأثر، حتى جاء العام الماضي (2017) حين تسارعت خطى الانحدار، ووجدت المؤسسات الصحافية الكبرى نفسها غير قادرة على دفع الرواتب في مواعيدها، وهي التي كانت تغدق على منسوبيها من الأرباح والمكافآت ما يسيل له لعاب منسوبي المؤسسات الفقيرة والمتعثرة.
«صناعة» الصحافة الورقية وانتقالها من الواقع الحالي إلى واقع يضمن استمرارها واستقرارها لا يعالج «بالمسكنات» و«فزعات» الإطفاء والمساعدات العاجلة غير المخطط لها، الأمر يحتاج إلى خطوات مدروسة قائمة على أسس موضوعية، ترتبط مباشرة بقضية «علاقة الصحافة الورقية بالقارئ»، وهو ما يطرح ثلاثة أسئلة أراها جوهرية: لماذا تنصرف الأجيال المعاصرة عن الصحافة الورقية؟ وكيف يمكن إعادة العلاقة بين قارئ اليوم والصحافة الورقية؟ ثم لماذا تدعم الدولة الصحافة الورقية؟
في اعتقادي، أن مواجهة هذه الأسئلة الثلاثة من القائمين على المؤسسات الصحافية والمسؤولين عن «محتوى» تلك الإصدارات هو المدخل الطبيعي والموضوعي الذي على الجميع الإجابة عليه، بعد معرفة وتحليل عناصره، والانتهاء إلى «خلاصات» مقنعة تخدم أهداف جميع الأطراف المستفيدة من استقرار الصحافة الورقية (العاملين والملاك والدولة)، من دون عواطف أو حلول مؤقتة ترحّل المشكلات تحت ظروف مرهونة بزوال الأسباب الداعية لها.
وقضية انصراف الأجيال الشابة عن الصحف الورقية ظاهرة عالمية، وإن اختلفت درجاتها وحدتها وأسبابها الخاصة في كل منطقة أو بلد، فالتكنولوجيا الحديثة وقدرتها على نقل المعلومات، في وقت قياسي، حققت رغبة المستهلكين وسدت حاجتهم، ولم يعودوا مضطرين لانتظار ما تنقله وسائل إعلام لا تأتي إلا صباح الغد، هذا التحول أصبح واقعاً في جميع أنحاء العالم. إذاً، مسألة التكنولوجيا وتأثيرها في الصحافة الورقية، من حيث الوقت والسرعة، أصبحت واقعاً لا يمكن تفاديه، لكن الذين نجحوا في تخفيف وطأته تفاعلوا معه وطوّعوا خبراتهم ورصيدهم من المعلومات وثقة المستفيدين للتكيف مع قوالبه واستغلال فارق الخبرة وقيمة السّمعة لصالحهم، وهذا يعني أن «صناعة المحتوى» هي ميدان المعركة وليس «الوسائل»، إذ أثبتت التجربة أن «الوسائل» متداخلة، يستفيد بعضها من بعض إذا أدير «المحتوى» بما يناسب كل وسيلة. قضية المحتوى «نقطة الارتكاز» في هذه المرحلة الصعبة، وهي ساحة السباق، وموضوعها كيف يدار التحول والتعامل معه؟
وبصراحة - قد تكون مؤذية للبعض - غالبية الأجيال الصاعدة لا ترى نفسها في ما تطرحه صحافتنا الورقية، في غالب أمرها، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، وهذا الزعم عندي عليه شواهد وتجربة، الشواهد أنني كنت يوما مسؤولاً عن تحرير إحدى كبريات الصحف الورقية، وكنت أرصد علاقة الأجيال الصاعدة بما نقدمه وزملائي في الصحيفة، وكان يأتي إلى مكتبي كل ما يصدر في المملكة العربية السعودية من صحف، بل كبريات الصحف الصادرة في العواصم العربية وبعض العواصم الأوروبية، وكنت أتعمد أخذها معي إلى المنزل، لمدة أسبوعين، وأضعها في مكان قريب من الجميع وكنت أراقب أفرادالعائلة، وغالبيتهم من الشباب من الجنسين، متنوعي الاهتمامات والتخصصات لأرى من يتناول تلك الصحف، لكن النتيجة كانت غير سارة، ولم أكتفِ بذلك، بل طلبت من أحد الأبناء، وهو في الثلاثينات، أن يختار لي من أقرانه 15 شاباً متعددي التخصصات والاهتمامات والحقول، فاجتمعت بـ12 منهم، فيهم الطبيب والمهندس والمحامي والمحاسب ورجل الأعمال، فاكتشفت أن «اثنين» منهم من يقرأ الصحف الورقية، و«الاثنان» غير راضيين عما يقرآن في تلك الصحف، وخشيت أن تكون تلك «العينة» خادعة، فطلبت من الزملاء في خمس مدن سعودية، في الوسط والشمال والجنوب والشرق والغرب، أن يجروا تجربة مماثلة، وكانت النتائج لا تختلف كثيراً عما أجريته في مقر المؤسسة. لا أدّعي «علمية» التجربة، لكن لا أشك في دلالتها المتفقة مع واقع توزيع الصحف وتأثير ذلك في الإعلان ومداخيل المؤسسات، الذي جعل المالك «يقرع الجرس» محذراً من التراخي في معالجة الواقع.
ولأن «الشكل» يمكن تطويعه، فإن «المعضلة» الأساسية – في نظري- لانصراف الشباب عن الصحافة الورقية يكمن في «المحتوى»، ومن هنا يصبح التحدي: هل مكون الصحافة الورقية والأساليب المتبعة في تحريرها قادرة على تغيير نفسها والاستجابة لحاجات الشباب؟ هذا هو التحدي الحقيقي، وفيه تكمن محاولة الإجابة على السؤال: كيف يمكن إعادة العلاقة بين قارئ اليوم والصحافة الورقية؟ ومعرفة ماذا يريد القارئ ليست مستعصية فهي متاحة سهلة، توفرها الدراسات الميدانية الحقيقية، وليست الدراسات «المفصلة» للتباهي بالمكانة والاستعراض على المنافسين وإيهام المعلنين بأرقام غير واقعية، بل إن غالبية العاملين في الصحف الورقية لديهم من الخبرة والاتصال بقواعد القراء ما يجعلهم «خبراء» قادرين على تقديم ما يحتاج القارئ.
وقبل توفير أهل «الصنعة» ما تستحقه المرحلة من «مدخلات» تضع الخطوات الأولى على طريق التغيير الإيجابي وتصحح الأخطاء، يبقى السؤال المشروع: لماذا تدعم الدولة إصدارات الصحافة الورقية؟ ونظرة الدولة للقطاع الخاص ورعايتها للإعلام والعاملين فيه وتقديرها لأهميته تدفع إلى القول إن الحكومة يمكنها أن تساعد الصحافة الورقية إذا قدم لها «تصور» عملي فيه ما يغير الواقع ويبشر بملامح قادرة على جذب اهتمام المتلقي، حينها يصبح الدعم محققاً المصلحة الوطنية، لأن الإعلام الفاعل جزء أصيل في برامج التنمية، ومن غير قيام المؤسسات الصحافية بما عليها في هذا السياق، فلا يتوقع أن يكون الدعم محققاً لأهدافه طويلة المدى. أرجو أن تلقى «صرخة» الأخ الكبير خالد المالك الصدى المُعين على تجاوز الضائقة، لكن أعتقد أن المستقبل يحتاج إلى أكثر من «دعم مؤقت».
التعليقات