& عبد الله المدني

&

ابتُليت منطقتنا الخليجية منذ قيام ما يسمى "الثورة الإيرانية" المشؤومة سنة 1979 بنفر من أبنائها ممن اصطف إلى جانب النظام الإيراني الفاجر في سياساته ومؤامراته وإرهابه، بل دافع عنه من دون حياء؛ لأسباب مذهبية طائفية معروفة. وقد تجسدت مواقف هؤلاء في خطاب إعلامي محرض ضد أوطانهم، وتشويه صورة بلدانهم، وقيامهم في المقابل بإضفاء هالة طهرانية على النموذج الإيراني الفاشل، وصولا إلى الاتصال بأذرع طهران التخريبية، والمنظمات الحقوقية المشبوهة، والأحزاب اليسارية الغربية المأزومة؛ للتآمر لقلب أنظمة الحكم في أقطارهم. ولعل ما حدث في البحرين في فبراير 2011 هو أفضل برهان على تلوث المواطن بالوقوف مع الأجنبي ضد وطنه وقوميته وعروبته ونظامه وناسه وأهله.
في تلك الفترة الحالكة من تاريخ البحرين، كادت الأمور أن تنفرط وتسود الفوضى، وينقلب مشهد البحرين الهادئ الوديع المسالم إلى مشهد مغاير تماما، لولا إرادة الله - سبحانه وتعالى - في إحقاق الحق، ورد كيد المتآمرين ومن وراءهم، وتلاحم الشعب البحريني المخلص مع قيادته الشرعية الخليفية، ومسارعة الشقيقتين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة إلى تقديم الدعمين العسكري والأمني للشرعية البحرينية.
جملة القول إن تلك العوامل الثلاثة أفشلت خطط المتآمرين الطائفيين وحلفائهم من الجماعات والتنظيمات القومية واليسارية ومن لف لفهم، وجعلت إيران تندب وتلطم لفشلها الذريع، لكنها - مع الأسف الشديد - وجدت عزاءها في جماعة الحوثيين في اليمن، التي باعت وطنيتها وعروبتها بثمن بخس، وانحازت إلى الأجنبي الإيراني، مخدوعة بشعارات طهران الخرافية، فشكلت ذراعا إرهابية لإيران، تضاف إلى ذراعها الإرهابية الأخرى المتمثلة في حزب الله اللبناني.
لكن ما مناسبة العودة إلى هذا الموضوع اليوم؟


نعود اليوم للحديث عن هذا الموضوع؛ لأن البعض لا يزال على استعداد ليكون بوقا منافحا عن الأجنبي، حتى إن كان هذا الأجنبي يستفز وطنه بمواقف سياسية بائسة أو تصريحات وقحة.
لقد فاضت مواقع التواصل الاجتماعي أخيرا برسائل ونصوص ومقالات بائسة حول اختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي، يبرئ فيها أصحابها الجماعات العاملة فوق الأراضي التركية - وهي معروفة للكل - من أي مسؤولية حول الحدث، وتلقي بأصابع الاتهام ضد بلاد الحرمين الشريفين، التي يعرف القاصي والداني أنها طوال تاريخها لم تلجأ إلى ما لجأت إليه الأنظمة العربية الثورية واليسارية. لجهة تصفية خصومها ومعارضيها في الخارج اغتيالا أو خطفا أو إذابة بالأحماض الكيماوية.
أما أسباب قيام بعض المواطنين الخليجيين ممن يسمون أنفسهم المعارضين، ومعهم الجهات الحاقدة جينيا على السعودية بهذه الفزعة تجاه تركيا، والنيل في الوقت نفسه من السعودية واتهامها بتهم رخيصة، فلا تخفى على أي لبيب، خصوصا حينما ندقق في جنسيات من وقفوا خلف الميكروفونات، أو تصدروا المشهد في الساحات العامة للشتم والولولة، فلكل جنسية أحقادها ضد السعودية، ولكل جنسية أسبابها لاختلاق الروايات. هنا نجد جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية تقف كتفا بكتف مع أنصار النظام الفقهي في طهران من حوثيين ولبنانيين تابعين لحزب اللات، ومع شخصيات إخوانية ويسارية هاربة من مصر، ومع مرتزقة قناة الجزيرة وتنظيم الحمدين، علما بأن الفئة الأخيرة، تحديدا، بدت للعالم أجمع، من خلال تغطيتها الهستيرية لحادثة اختفاء خاشقجي، كما لو كانت مستعدة ومهيأة مسبقا لعملية الردح واختلاق الأكاذيب، التي بلغت حدا غير مسبوق من البذاءة والخيال المريض، كالقول إن خاشقجي لم يقتل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول فحسب، إنما تمّ أيضا تعذيبه وتقطيع جثته.


لم يقتصر مسلسل الردح والبكاء والعويل واختلاق الأكاذيب على هذه الفئات فقط، بل شاركتها في استهداف السعودية منذ اللحظة الأولى للحادثة صحيفة واشنطن بوست ووكالة رويترز ومحطتا مونت كارلو والبي بي سي. والمستغرب هنا، وهو في الوقت نفسه دليل إضافي على التربص بالسعودية دون سواها، أن خبر اختفاء صحافي مثل خاشقجي لا يحمل أي صفة رسمية، حظي بتغطية إعلامية واسعة، ومساحات كبيرة من النقاش والتحليل، عبر استضافة محللين فاقدين أدنى درجات المصداقية، بينما لم يحظ خبر أهم مثل اختفاء رئيس جهاز الإنتربول الدولي "مينج هونج وي" في بلده الصين بعشر معشار الزمن والمساحات التي أفردت لخاشقجي، علما بأن بكين اعترفت لاحقا بوصوله إلى أراضيها، وإلقاء القبض عليه وخضوعه للتحقيق لأسباب جنائية وقضايا فساد.
إننا أمام جماعات وفئات وأنظمة قد تبدو من الخارج متناقضة في توجهاتها وسياساتها، لكن ما إن يظهر اسم السعودية في قضية من القضايا، إلا ونجدها متضامنة معا للإساءة إلى المملكة وتهديد أمن واستقرار الخليج، كل على طريقته الخاصة، وكل باستخدام من يدينون له بالولاء والتبعية العمياء لأسباب مذهبية، كما في حالة إيران، أو لأسباب أيديولوجية، كما في حالة تركيا، أو لأسباب انتقامية، كما في حالة قطر.


ومن هنا، يجب علينا في الخليج، حكومات وشعوبا ومؤسسات مجتمع مدني، أن نعير الأمن اهتماما خاصا، يفوق كل اهتماماتنا الأخرى. فمن غير الأمن لا مستقبل لأوطاننا وشعوبنا وأجيالنا القادمة. ومن دونه لن نستطيع أن نبني أو نحلم أو نخطط أو نبتكر أو ننشد التقدم نحو الأفضل، وبالتالي فإن الذين يصفون أنفسهم بالمعارضة، ويرفعون عقيرتهم من وقت إلى آخر ضد تقييد حرية هذه الجماعة أو تلك، ينطلقون من أهداف خبيثة وغايات مريبة، لا علاقة لها بحقوق الإنسان كما يزعمون.
أما الخارج الذي يولول معهم، فإنْ كان إيرانيا، فسجله أسود كالح، لا تنظفه مساحيق الكون، وإنْ كان تركيا فمعتقلاته مليئة بمئات الآلاف من المسجونين منذ الانقلاب المزعوم ضد الرئيس رجب طيب أردوغان سنة 2016، وإن كان المعترض بريطانيا فرئيس وزرائه الأسبق ديفيد كاميرون قالها صريحة: "عندما يتعلق الأمر بأمن بريطانيا فسأضع حقوق الإنسان على الرف"، أما إذا كان أمريكيا فسجون جوانتانامو شاهدة على أن حكومته لا تتهاون إطلاقا في مسائل الأمن الوطني، ولا تعير حقوق الإنسان أي اعتبار في هذه الحالة.