& عبدالله بشارة&

في ذلك اللقاء المهم، الذي استقبل فيه سمو الأمير الهيئة الوطنية لحقوق الانسان، تفضّل سموه في استذكار هيبة القانون، مردداً اننا نؤمن بالقضاء ونحترمه، ونلتزم أحكامه. ويوجه كلماته إلى رجال الهيئة بالتأكيد على حقوق الانسان وكرامته، مضيفاً ان القضاء لا يسيء إلى أحد، وهو موقع العدالة، فكل مشكلة عند القضاء لها حلول، ويثني على حصاد الكويت، في سمعتها الحسنة، ويعزو ذلك إلى تلاقي أهلها عند قاعدة تبجيل القضاء والاحتكام لديه.
في هذه الكلمة القصيرة، يوجد مضمون واسع، بأن رقي المجتمعات يستند إلى عدالة لا يشك أحد في نزاهتها، فالعدالة هي قاعدة التحضر، فلا يمكن أن ترقى الشعوب وتسجل ابداعات تتدفق من مخزونها إلا إذا تواجدت الضوابط المنظمة لحياتها، تعطي صاحب الحق نصيبه، وتقبض على صاحب السلوك السيّئ وتردعه.


من هذه الحقائق ترتفع المجتمعات، وتجتهد في مسار البحث عن الانتفاع الشرعي، ومن هذا المنعطف يتولد الاستقرار وينعم المجتمع بالتوافق الجمعي وتتعمّق جذور الأمن، ويعيش المجتمع بالوئام والترابط في كيان له اعتبار عالمي وعنوانه الرقي في السلوك والاسهام في التنمية العالمية.
يمكن لنا رصد أن الكويت تملك التأهيل لهذا الصنف من الدول، فلم تتلوث صورتها؛ لأنها لم تسمح للسياسة بالتسلل إلى جسد القضاء ولم تسجل في يومياتها ما يشبه مذابح القضاء، وليس فيها جنرالات يديرون المحاكم العسكرية، ويصدرون أحكاما تعسفية، تفتك بقيم الانسان وتعدم آدميته.
ولم تتعرّض جمعيات رجال القضاء للاغلاق ولم يفرض عليها قائمة حكومية ناعمة لكي تدير هذه الجمعيات، فعندما يتحدث سمو الأمير فإنه يعلن في اعتزاز أن مبدأ الاستقلال للقضاء وتحصينه هو منبع التراضي ومحور الاطمئنان.
أكبر عوامل الهدم التي تعرّضت لها معظم الدول العربية جاءت من تسييس القضاء وفقدانه الاستقلال وتحويله إلى منظمات حكومية تسوق ما يراه النظام في عجز تام عن الدفاع عن العدالة، وفي تخاذل كئيب عن المبادئ التي يعيش عليها القضاء.
وطالما أن العدالة هي هيبة النظام القضائي، فلا بد من التلويح بمخاطر الأحكام التلفيقية التي تفرزها الايديولوجيات التي لا تنسجم مع قواعد العدالة وتهدم استقلال القضاء، وهي التي دمرت دولا عربية عسكرية وحزبية في العراق وسوريا ودولا أخرى راحت عنها قبضة العدالة، وانتهت فيها صرامة القضاء المستقل.


وربما من المفيد أن أشير إلى الظروف الساخنة مع اقتراب عودة النشاط البرلماني، يتحدث بعض النواب وآخرون عن إعادة النظر في أحكام أصدرها القضاء الكويتي بعد دراسات أخذت حقها من الوقت وحقها من التدرج، وأصدرت آخر مراحلها حكماً لا يستثني بعض النواب، وإنما يصادق على خروجهم على قواعد الاستقرار، فضلاً عن نبرات مواقف التحدّي والتصدّي، فلا يمكن أن تعيش الكويت أجواء يتعرّض فيها القضاء للأهوائية والانتقائية، نؤيد ما يناسبنا من أحكامه، ونعترض على القضاء عندما نستثقل أحكامه، فالعدالة والانصاف هما أبرز أخلاقيات الحياة الدستورية.
ولم تسجل الكويت في تاريخها الحديث اعتراضات على القضاء وعاشت في انسجام معه وثقة به، لكننا نسمع أصواتاً في هذه المرحلة تخرج بنبرة الاعتراض على ما صدر في مسعى لتدشين مرحلة خطرة في محاولة تسييس أحكام القضاء، وهذا التوجه الخطر يصيب الروح الصافية التي حافظت على الكويت.
أبواب الرحمة والعفو واسعة في الكويت، لكنها لا تأتي من مواجهات وتهديدات بطرح ثقة ومؤشرات عدم التعاون، فالدستور يعالج هذه الاحتمالات بضوابط معروفة تحمي المسيرة وتحافظ على النظام العام، وتصون الاستقرار.
ومن المناسب أن يتّجه من يريد طي صفحة الماضي نحو الممر الايجابي لمفهوم العفو وأن يتقبل ضوابطه، في رسالة إلى حماة الشرعية الدستورية، التي تجسّدها وثيقة الدستور، وفيها يتوافر المجرى المنطقي لمن يريد فصلاً جديداً صافيا، من دون الاقتراب من منطوق أحكام صدرت وصارت حقيقة في تاريخ القضاء الكويتي.
يمكن في هذا الصدد تأكيد الحقائق البارزة، فأمن الكويت واستقرارها وسلامة مؤسساتها فوق كل الاعتبارات، فليست فيها مساحة للخواطر وإرضاء للمشاعر، يصون أمنها الاجماع الشعبي ويحميه الحس الوطني العميق المستمد من تراث متميز بالتكاتف والوحدة الوطنية وبالغيرة الراسخة على تراب الوطن.


نحن نملك وطناً أدركت الأسرة العالمية معاني الانسانية التي يتبنّاها هذا الوطن، مع استمراره في الحفاظ على قوة هذه المعاني، لهذا صار موقع الكويت في لائحة الشرف مع المجتمعات الأخرى التي لا يميز فيها القضاء بين غني وفقير، بين من يجلس على السجاد أو من نام على الحصير، لسنا في ظروف تسمح لنا بسوء التقدير الذي قد يؤدي إلى منزلق يؤذينا ويلوّث اللوحة الصافية التي اعتاد العالم على تواجدها في خريطة الكويت.
حديث سمو الأمير مع مجموعة حقوق الانسان يعبّر عن إدراك لقيمة العدالة في مستقبل الأوطان ودورها في الأمن السياسي والاجتماعي وفي عمق الطمأنينة والاستقرار، ودليل على حرص سموه على حماية القضاء من تحرّشات السياسة.
هذا موقف من أمير شاهد الكثير، وشارك بعمق واستوعب حكمة الزمن من تجارب عاشها، أضاءت له أنوار السلامة.

&